عبد الكريم عودة /غزة
لم تكنْ إحدى إستديوهات التصوير لمسلسلٍ ينتظرهُ الجمهور على الفضائيات، إنما هي حارةٌ صنعَ سكانها من جمال بساطتها صورةً هوليودية صدمت كلّ من يعيش في مدينةٍ تعجُّ شوارعها بالدمارِ ورائحة الدماء.
الحارة الملونة "دير اللاتين"
حارةُ دير اللاتين بحيّ الزيتون تزيّنت مؤخراً باسم " الحارة الملونة "، فرسمت صورها على مواقع التواصل الاجتماعي لتكونَ مزاراً وصفه أهلها بطبيب الأرواح، فبألوان جدرانها وأسقفتها الخشبية الحاملة لأغصان الزهور، لم تملّ أبصارُ الناظرينَ من التمتعِ بالتجوّلِ في أزقتها، واستنشاق هواء الفن والحرية اللذان أعدمت نيران الحروب والأزمات طعمهما في مدينة الثلاثة حروف وحروب " غزّة " .
مع العلم أن هذه الحارة ذاتها تعرضت العام الماضي لضربات الإحتلال التي نالت من كل شيء فيها، لكن هذا العام تبدو أكثر رغبة في إزاحة غبار الحرب و الدمار، و مع دخول فصل الصيف ارتدت أزقة الحي و بيوتها حلّة بهية، لتبدو بألوانها مستعدة لاستقبال الحياة بوجه أكثر إشراقا.
بداية الفكرة
لهذه الحارة حكاية، بدأت حينما قرر " أبو عبد لله الصعيدي"، بطلاء منزله بألوانٍ متنوعة " من الزهري إلى الأحمر إلى الأخضر إلى الأصفر" وتدريجاتهم، فهو دهّان قديم و"دكتوراه في اختيار الألوان "، هكذا قال جاره "عماد نايف" الرجل الأربعيني و الذي يعملُ موظفاُ حكومياُ، أن هيئة المنزل تغيّرت تماماً بعدما تربّعت أواني الزرع المختلف ألوانها في زوايا المكان .
أثار الأمر إعجاب الجيران ومُحدّثنا أبو عدنان الذي تشاورَ مع جاره أبو عبد لله هو و أخيه محمد نايف و جارهم الرابع أحمد الحداد، مُقترحين عليه تعميم الفكرة على كافة منازل الحيّ، الجميع أبدى استعداده للتغيير، وانتقلت الفكرة من منزل أبو عبدلله الذي يقفُ على ناصيةِ الحيّ إلى جاره الأول عماد نايف ثمّ إلى منزل أخيه محمد ثم إلى منزل أحمد الحداد وغيره، فخلال فترةٍ قليلة تغيّرت ملامح الحارة، خمسونَ منزلاً جعلوا من حيّهم صورةً ملونة.
تدوير خامات البيئة بأقل تكلفة
الألوان الزاهية كست الجدران وأحواضٌ للزرعِ صنعها أهل الحيّ من حجارة البيوت المدمرة وُضِعَتْ على جنباتِ الطريق لِتبعثَ أكسجين الحياة والبهجة في نفوس سكان الحي و زائريه، حتى دولاب السيارات المهترئ أصبح ملاذاً للزهورِ فيها، كل شيء في هذه الحارة بات قيد الاستخدام " الألواح الخشبية، العلب البلاستيكية، براويز مهجورة و إطارات السيارات "علّقوها بطريقة فنية على الجدران بطريقة لم يسبقهم فيها أحد، بعد أنْ تمّ استحداثُ أشكالٍ هندسية منها أضفت على الحارة جمالاً لصورتها، أذهلت كل من زارها بسحر ما صنع سكانها .
في إطار ذلك , قال نايف: " ليس من ضروري تكون مليونير كي تعمل من حارتك حارة زاهية ملونة تشرح صدرك فيها، و يكون المشهد فيها جمالي، و لكن بأشياء بسيطة جداً و بتكاليف بسيطة جداً ممكن تحصل أنتَ على مشهد جمالي رائع".
آراء سكان الحي
وحينما تجولنا في أزقة الحيّ قابلنا الفتاة ذات الـ 24 ربيعا "أية الصعيدي" ابنة أبو عبد لله و استضافتنا بثغر باسم داخل بيتهم، قالت والسعادة تغمرها: " كتير انبسطنا كتير فرحنا، الحارة من أول حيطة بدت تتلوّن تابعناها، كنّا مبسوطين كل حيطة تخلص ننبسط و نفرح بشكل مش طبيعي لحد ما وصلنا للي إنتَ شايفه" .
وأضافت أية :"عملنا صفحة على الفيس بوك باسم الحارة الملونة و خلال يومين وصلت لـ 3 آلاف لايك على مواقع التواصل الاجتماعي، وبدأت فكرتنا تنتشر لخارج قطاع غزة و فلسطين". وتبين أن شعب غزة شعب حضاري وليس شعب عايش بحروب و قتال، حيث أردنا أن نعطي صورة حلوة للعالم أن شعب غزة يحب الحياة.
في نفس البيت وعلى ذات الطاولة المنتصبة في المساحة الأمامية لمدخله، والتي علّقوا فوقها شبكة خشبية اتكئت عليها قوارير زراعية ملوّنة، جاءت الفتاة ميس نايف ،وتبلغ 19 ربيعاً، أوضحت أنّها من الفريق الشبابي الذي تواصل مع الفنانة التشكيلية (داليا عبد الرحمن)، والتي قدّموا من خلالها فكرة المبادرة لمؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، التي تبنّت الفكرة لاحقاً لِتُصبحَ بعد ذلك مشروعاً يتغنّى بالإبداع.
وتقول ميس: "يعتبر تلوين الحارة عمل مفرح وأدخل البهجة في نفوس الأطفال والكبار، وأثرت عليهم بشكل إيجابي للتخلص من الأفكار السلبية لديهم". وتتابع: " الحرب الأخيرة أثّرت على نفسيتنا و أتعبتها كثيرا".
ويبين والدها أبوعدنان أن بدون قصد تلوين الشارع دخل ضمن نطاق علاج نفسي لِأطفال كانوا سيئي التصرفات و أصبحوا هادئين ومفعمين بالإيجابية.
" ثورة نحو التغيير للأفضل، اللون والورد يضفي طاقة على الإنسان خاصة الأطفال، ونحن أطفالنا عانوا العديد من ويلات الحروب والحصار، وكان من الضروري أن نرجع الحياة للطفولة في غزة بالذات، وكان أقرب وسيلة هي اللون والورد". كما تحدث "أبوعبد لله الصعيدي" في الخمسينات من عمره- الرجل الذي عمل على تلوين حياة الحيّ و خلقَ وجهاً جديداً له في نفوس سكانه، هذا ما تحدّث به إلينا وعلى مُحيّاه تبدو علامات السرور.
هذه الحارة التي لا يهدأُ ضجيجُ الفرحِ فيها ولا تنام، ولا تكفُّ عن استقبالِ الزوّارِ حتّى في ساعاتِ الليلِ المتأخرة، وتلك اللوحة جعلت عدسات المصورين لا تكلّ من رسمها على جدران مواقع التواصل الاجتماعي، لتقولَ للعالم على لسان أطفالها : "ونحنُ نحبُ الحياةَ ما استطعنا إليها سبيلا ".