رامي محسن – بيالارا - غزة
بدأ يضرب كفيه بعضهما ببعض في إشارة لقلة الحيلة ويقول: قسمت أنا وعائلتي الأدوار بيننا؛ فأنا مسؤول عن تأمين المياه والخبز، وزوجتي تنتظر دورها في طابور العلاج والمساعدات الإغاثية أحيانا، وأبنائي الصغار ينتظرون "التكية" التي توزع الطعام المجاني على النازحين، وهذا كله لنتمكن من تأمين القليل من الاحتياجات اليومية المغمسة بالقهر والهوان، في ظل حالة الحرب والفقر والعوز؛ هذا ما قاله أو أحمد الذي أجبرته ظروف الحرب على النزوح قسراً إلى جنوب قطاع غزة، ويقول: تخيل أنك قد تضطر للوقوف تحت المطر أو تحت حرارة الشمس نصف نهار، لتحصل على قارورة ماء وبعد أن تحملها على كتفك لمسافة طويلة، أو على عربة تجرها دابة إن منت محظوظا فتشرب منها أنت وأفراد أسرتك، وما تبقى يذهب لباقي الاحتياجات اليومية، ويضيف: "أحياناً أقف على الطابور وأتحمل كل هذه المعاناة ولا أحصل على قطرة ماء؛ لعدم كفايتها لكل من ينتظر! إنه أبشع شعور بالخذلان والعجز.
هكذا تحول المشهد في قطاع غزة إلى طوابير للحصول على مياه الشرب، وآخر للحصول على الخبز، وثالث طلبا لمساعدة إغاثية، ورابع للعلاج أمام ما تبقى من عيادات ومراكز صحية، وخامس وسادس...، يستمر هذا المشهد مع مطلع الفجر وحتى حلول الظلام، فالوقوف على الطابور سواء في البرد أو الحر أصبح وظيفة كل أفراد الأسرة، فلكل منهم طابوره الذي يصطف فيه.
تستمر الحرب على قطاع غزة منذ أكتوبر الماضي حتى تاريخ كتابة هذه المادة، ويستمر معها إنعدام أدنى مظاهر الحياة البسيطة، فلا كهرباء، ولا طعام صحي كافِ... ولا حتى غير صحي، لا علاج، ولا ماء، في ظل حصار شديد وإحكام السيطرة على المعابر بما فيها معبر رفح الذي اعتقدنا أنه سيستمر في إدخال الحد الأدنى من المساعدات والاحتياجات الطبية... لقد تمت السيطرة عليه، لتزداد تداعيات الحرب ومعاناة الناس.
لم تسلم شبكات ومضخات المياه من آلة الحرب، فبعضها تعرض للتدمير كحال المرافق المدنية والخدماتية، وبعضها لا يعمل لعدم توفر الوقود والكهرباء اللازم للتشغيل، وكذلك عدم توفر قطع الصيانة، بينما القليل المُتبقي يعمل بما توفر من الوقود، أو زيت عباد الشمس الذي يستخدم للطهي، أو ألواح طاقة شمسية غفلت عنها القذائف.
وحسب مصلحة مياه الساحل في قطاع غزة؛ فإن مرافق المياه تعاني من مشكلات كارثية، جراء ما تعرضت له من تدمير واستهداف، طال المضخات والبنية التحية والشبكة الناقلة، إلى جانب التلوث نتيجة المواد المتفجرة، وتدمير شبكات الصرف الصحي التي أتت على التربة وأجزاء من الخزان الجوفي، وبالتالي لم يعد هناك مياه آمنة وصحية، وأصبح متوسط حصول الفرد اليومي على المياه في ظل الحرب لا يزيد عن (9) لترات يومياً، مقارنةً بحوالي (90) لترا قبل الحرب وهو بالطبع أقل من المُعدل العالمي من حصة الفرد.
حمل المياه يومياً سبباً "للفتق المريئي"
يحمل النازح قارورة أو أكثر من الماء وهو ما خلق معاناة إضافية لمعاناة الحرب ذاتها، وجعلت من الحياة عبئاً على كاهل الأهالي الذين كرهوا الوقوف في الطوابير، ككرههم للحرب، يقول الشاب إبراهيم أبو يزن: "الكهرباء والمياه مقطوعة عن المنازل طيلة أيام الحرب، ولعل أصعب مهمة يمكن أن يقوم بها الشخص خلال في الوقت الراهن هي توفير المياه لأسرته، فالناس يمشون مسافات طويلة ذهاباً وإياباً في سبيل الحصول على قالون من الماء يحملونه على الأكتاف تارة وبين أيديهم تارة أخرى، الأمر الذي يسبب لهم الآلام في الظهر والأقدام والأكتاف، والأصعب من ذلك أن لا مجال للراحة؛ فهذا تقليد يومي، ولا خيار أمام الشخص سوى الاستعانة بالمسكنات العلاجية إن وجدت.
يتابع أبو يزن: "في مساء أحد أيام الحرب شعرت بألم مختلف، آلام شديدة في البطن، ولم تسعفني المسكنات هذه المرة، وفي صباح اليوم التالي توجهت للمستشفى الوحيد الذي يعمل شمال غزة، وسلكت نصف الطريق مشياً على الأقدام متعكزاً على أخي، والنصف الآخر على عربة يجرها حصان، وبعد معاينة الطبيب اتضح أنني أعاني من "فتق مريئي" يحتاج لعملية جراحية لترقيع الفتق، لكن الأطباء نصحوني بتأخير إجرائها لحين توقف الحرب؛ لأنني سأحتاج لفترة طويلة من النقاهة والراحة"، ويتابع: "قررت تحمل الألم، لأن مهمات الحصول على الطعام والماء لن تنتظر.
قارورة مياه وحروق البشرة
تقول "أم أحمد"؛ نازحة ثلاثينية أنها تسير يومياً مع ابنها طريقاً رملياً طويلاً، نحو مضخة للمياه وتنتظر عندها حوالي ساعتين على الأقل، تحت لهيب أشعة الشمس، ويتصبب منهما العرق؛ لتتمكن من تعبئة قارورة مياه أو اثنتين، قبل أن تحملهم وتعود بهم لخيمتها، وتضيف: هذه مهمة شاقة كوني امرأة، إضافة إلى أنها سببت لها حروقاً شمسية في الوجه، غيّرت لون بشرتها لنحو ثلاث درجات لونية، الأمر الذي يعد مصدرا للقلق والاكتئاب، وتختم حديثها بالقول: من سيعيدنا لبيوتنا؟ ومن سيعيد لنا هيئاتنا التي كنا عليها قبل الحرب.
نقص المياه وانتشار القمل والأمراض الجلدية
وتوضح "أم محمد"؛ وهي نازحة وأم لخمسة أطفال يسكنون في خيمة بمنطقة كثبان رملية: المياه غير متوفرة، وهناك صعوبة كبيرة للحصول عليها، خاصة وأننا بعيدون عن الطريق، وللحصول على المياه فإنها تعتمد على سيارات توزيع المياه المجانية، التي تأتي للمنطقة بشكل غير منتظم، حيث يتجمهر الرجال والنساء والأطفال حولها، ويتدافعون، والأقوى هو من يتمكن من تعبئة قارورته، وفي أحيان كثيرة عندما لا تتمكن من الحصول على الماء تذهب ونساء أُخريات لتوفير المياه من البحر؛ لتُدبير شؤون حياة أسرتها اليومية. لكن هذا النوع من الماء يتسبب بأمراض جلدية ومعوية، وإصابات متكررة بعدوى الحكّة، ومع قلة النظافة انتشر القمل.
أمام النقص الحاد في الماء والدواء والغذاء في قطاع غزة؛ تنذر العديد من المنظمات الأممية بكارثة إنسانية عميقة، وقد أظهرت العديد من التقارير الصحفية وشهادات حية من أعضاء في وفود طبية زارت القطاع مؤخرا، أن عددا من الأطفال فقدوا حياتهم نتيجة نقص المياه والطعام والبرد أحيانا، هل تسمع الضمائر الحية كل طلبات الاستغاثة؟ وماذا عساها فاعلة؟