قمر شريف/ رام الله
رسمت بكحل عينيها صورة ألم وأمل، وسطرت ببريقهما أجمل معاني البطولة والفداء، وبقوة عزمها لم تدع للخوف مكانا في قلبها، وفي ظل لهيب الانتفاضة الفلسطينية الأولى في عام 1987، وحصار إسرائيلي مطبق على الأراضي الفلسطينية، قررت أن تتحدى الحصار، وتسلك المحال، متخطية الحواجز للوصول إلى مكان فيه طابعة، بعد أن أغلقت قوات الاحتلال كافة المطابع في فلسطين وصادرت معظم آلاتها، ونجحت في الوصول إلى قلب الخليل، حيث اصطدمت هناك بواقع مرير؛ مستوطنة كريات أربع، التي يسكنها غلاة المتطرفين. وبعزم إرادتها دخلت إليها لطباعة البيان رقم (12)، بعد أن استشارت الأب الروحي لها؛ أمير القدس، الشهيد فيصل الحسيني. وبعد مرواغة منها ومن زملائها لمستوطن إسرائيلي يملك مطبعة في هذه المستوطنة، تمت طباعة ثلاثة آلاف نسخة، وبلمح البصر، تم توزيع البيان في كافة أنحاء الوطن قبل الساعة الخامسة فجرا.
في تلك الأثناء أرسل الرئيس الراحل ياسرعرفات برقيات تهنئة بهذا الإنجاز، من مركز القيادة الفلسطينية في تونس؛ لتتوج تلك المرأة عملا نضاليا بطوليا صدعت أمن حكومة الاحتلال وزلزلته.
تلك المرأة العنيدة هي المناضلة ابنة القدس العظيمة، التي قدمت نموذجا مشرفا للمرأة الفلسطينية التي أفنت عمرها لوطنها، تحمل شهادة الدكتوراة في الدراسات الإقليمية، والماجستير في دراسات التنمية الاجتماعية والأسرية، والدبلوم العالي في تمريض بتخصص فرعي للجراحة، وحاصلة على لقب المرأه النموذج عن فلسطين من حملة الأيادي البيضاء المنبثقة عن وزراء الإعلام العرب ولقب الموظف المثالي بجائزة من الملكة إليزبيث ملكة بريطانيا، وتكاد تتبعثر الكلمات عند وصفها في حبها لسلام وطنها وأرضها، فهي حاصلة على جائزة السلام الدولية من مؤسسة السلام الدولية. إنها السيدة سلوى هديب قنام؛ عضو المجلس الثوري لحركة فتح، وعضو في المجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية.
وحين تغدو التضحية نموذجا حقيقيا للعطاء، فإن هديب وحدها تحكي حكاية عائلة من الشهداء، فقد سلبت رصاصات الاحتلال منها أناسا كان لهم الأثر الأكبر في دفعها إلى ساحة النضال الوطني، حيث تقول: "استشهد أخي في اليوم الذي أعلنت به نتائج امتحانات الثانوية العامة، وكان من الناجحين، أما خالي فقد استشهد قبل زفافه بيوم واحد".
وسجنت هديب، وعذبت، وخرجت من قبرها حية كأروع مثال للصمود في وجه الاحتلال الإسرائيلي، فتتابع: "كنت أدرس في بيروت في تخصص القانون، وفي السنة الثالثة، ولدى عودتي إلى الوطن لزيارة الأهل عام 1984، اعتقلت لعام كامل، ومنعت من السفر لمدة تسعة أعوام متواصلة، وصدر ضدي قرار بالإقامة الجبرية لمدة ثلاث سنوات ونصف، وطالت قيود السجان عائلتي، فعذبوا أمي أمامي للضغط علي، إلا أنني بقيت صامدة وثابتة ومستعدة للتضحية مهما كلفني الأمر". وأمام صمودها، وصلتها رسالة عز وفخر من القائد الرمز أبو عمار مفادها: "أنت من النساء اللواتي نفتخر بهن".
هديب التي بدأت نضالها وهي ابنة 14 ربيعا من خلال تأسيسها للنادي العلمي التابع لنادي الموظفين، شاركت في إبراز الخط الوطني لمدينة القدس، ورفض كافة أشكال التهويد لها، وشاركت في تشييع الشهداء، وحماية الفدائيين، حيث تقول:"ساهمت خلال عملي كممرضه في مستشفى العيون بالقدس، وبالتعاون مع زملاءالمشفى، في مساعدة المتظاهرين أثناء الانتفاضة في الهروب والاختباء من الاحتلال، حيث كنا نخفيهم بين المرضى، فنغطي أعينهم بالضمادات والقطن، ليبدو أنهم من مرضى المستشفى فيتركهم الاحتلال وشأنهم".
وبريشة قلم، وفصاحة لسان وكيل وزارة شؤون المرأة، أكدت هديب على ضرورة نضال المرأة لإثبات حقوقها، فأثارت أهمية تدريس النوع الاجتماعي في الجامعات، وعملت جاهدة على منع تزويج الفتيات تحت سن 18 عاماً، وناضلت لحماية المرأة في قضايا الشرف، ونادت بنبذ العنف ضدها... والقائمة تطول. وها هي اليوم تتجه إلى التعليم الجامعي لتبني جيلا يحمل القضية على عاتقه في سبيل تحرير فلسطين. فهي مستمرة في نضالها الثوري والوطني؛ "مسيرتي النضالية لا تتوقف، ولن تنتهي إلا بالوصول إلى الدولة الفلسطينية الديمقراطية المتوجة بالعدالة الاجتماعية لجميع أبناء الوطن رجالا ونساء".