حدثتني الخيوط في معرض غزل العروق!

2018-08-13 06:21:42

غيداء حمودة/ رام الله،

على ضوء ساعات الفجر الأولى تخرج إحداهن حاملة قطعة قماش بيضاء في يدها اليمنى، و في اليسرى تجدها قابضة على خيوط حريرية لمعانها لا يقارن بأشعة شمس! تجلس هي على سجادتها المتواضعة بمحاذاة باب منزلها، وتهم بأخذ إبرة صغيرة قد لا تراها بعينك المجردة!، تدخل طرف الخيط في عنقها، وتباشر عملها بكل انسيابية، بحب حاكت أول درزة، وبشغف حاكت الثانية، ومع حلول الشروق بدأت لوحتها تتشكل.

التطريز يا سادة، الكلمة التي قد لا  تعنيك بشيئ إلا أنها عالما بالنسبة لغيرك، ومثلي مثل أي شخص لا يعلم أن في التطريز تفاصيل وأسرار تغيرت بين الفينة والأخرى، واتسمت بصفات ميزت طبقة فلسطينية عن غيرها.

معرض "غزل العروق" في المتحف الفلسطيني، حيث "رايشل ديدمان" قَيمة المعرض تأخذك في جولة بين عوالم التطريز الخفية، تحدثت ديدمان باللغة الإنجليزية، وأنا بدوري قمت بتدوين ما تقول وترجمته، ضمن مجموعة من الأشخاص المتلهفين للمعرفة، مشينا بين ثنايا، وزوايا المعرض المتعددة، ومنها تتعرف كيف كان التطريز قبيل عام 1948م، وكيف عبر عن حياة المرأة اليومية التي علق على ثوبها بقعة حليب نتيجة لإرضاع طفلها، أو قطرة ماء حلت على صدرها المطرز لغسلها الخضار. وفيه تلق النظر عن كثب على التطريز وعلاقته الوطيدة بالمقاومة؛ ولا تستغرب في حال رؤيتك للعلم الفلسطيني محاك على صدر أحد الأثواب؛ ومصادرته في إحدى المظهرات لم يعجز النساء؛ فأخذن بتطريزيه على أطراف لباسهن، وكيف ظهرت المرأة الفلسطينية مرتبطة بالفعل المقاوم على الملصقات غير متخلية عن زيها التقليدي الملون الذي أسبغ بلون الدم أيضا.

ومن كان يعتقد أن للنوع الإجتماعي علاقة رئيسية بالتطريز؟! إذ حاكت النساء عن بعضها البعض، ومنهن من تعلمت الحرفة بالوراثة عن أمها، أو جدتها، إلا أن الأمر لا يقف عند هذا الحد؛ والرجال أيضا كان لهم حصة من المشاركة؛ لكن في الأسر، يسرقون من النهار ضوءا يعملون به، لينتجوا أعمالهم التي عكست طبيعة علاقتهم العاطفية مع أمهاتهم، وزوجاتهم.

في قسم تجسيد الهوية في المعرض تقرأ عنوان " تجسيد الهوية: التطريز، الثياب، والطبقة الاجتماعية"، وفيه تجد أن السيدات في المدينة اختلفن عن من هن في القرية؛ إذ عرفن التطريز لباسا لكن بشكل مغاير؛ فاستخدمن من الخيوط الحرير، الذي يدل على انتمائهن لطبقة برجوازية.

ولعل من الآثار التي ارتبطت بالفعل الكولونيالي ؛ ظهور خيوط ال"DMC" التي تنتج من قبل شركة عالمية تأسست عام 1746 ومنها نستقي كيف تأثر الثوب الفلسطيني، وتغيرت طرق صباغة الألوان، وأصبحت الخيوط خاصة بمنطقة معينة، ومعروفة برمز، ورقم معين.

بعد هذه التأثر لا يصعب علينا الحديث عن قضية "تسليع التطريز" إذ بعد أربع سنوات من البحث الذي انتهج من قبل "ريشل" وفريقها نرى أن ديدمان أبحرت في أكثر من 100 جمعية تعمل على إنتاج التطريز، وباشرت بجمع المعلومات المتعلقة بها بدءا من التاريخ، والنسق، إلى التمويل. وفي حال أردت عزيزي القارئ أن تتعرف على هذه التفاصيل عن كثب عليك أن تكمل المعرض حتى أخر مرحلة فيه، لتلحظ الملصقات الكبيرة التي دون عليها وجود ثلث جمعيات التطريز في فلسطين، وتتوزع البقية منها في أنحاء مختلفة من العالم منها شرائح كبيرة لدى اللاجئين في الأردن، لبنان، وسوريا، ويباع المنتج عالميا من خلال مئات الجمعيات والشركات التجارية.

بطبيعة الحال تطالع أيضا أن تأسيس هذه الجمعيات كان منذ عقود، إلا أن ما نسبته 16% سواء استمرت أم لا أنشئت ما قبل عام 1970، فيما أن 64% منها تأسس بعد عام 1989، والمفارقة أنه وبحلول  عقد التسعينيات وما تلاه ظهرت جمعيات التطريز بإسهاب، وعليه نجد أن توقيع إتفاقية أوسلو عام 1993 مهد الطريق أمام التمويل الأجنبي، وذلل العقبات أمام عمل المؤسسات الأهلية، ومع ثورة الإنترنت، وفي أعقاب الألفية الجديدة ما يقارب النصف من هذه الجميعات أُسس، وبات التواصل مع الزبائن في مختلف أنحاء المعمورة سبيلا للبيع بحلول عام 2016.

ومن تحول التطريز كسلعة نعود إلى عام 1948؛ فكانت النساء حينذاك كريمات على بعضهن البعض، وهمت واحدة لمساعدة الأخرى، لكن الحال لم يبق كما هو عليه، وعلى ما يبدو أصبح التطريز عملية تنافسية، وبدأت السيدات امتلاك آلات للحياكة؛ أي من لديهن المقدرة على شرائها، أما الأخريات اكتفين بالتطريز لإعالة أسرهن، وجمع قوت يومهن؛ أي من عمل مدفوع بالحب إلى مجرد عمل كما عنونت إحدى زوايا المعرض.

وبالعودة إلى عنوان هذه المادة الصحفية تحدثت والخيوط وأخبرتني الكثير؛ عن جدتي، عن قريتي، وعن حب من نوع آخر.

 

- الصورة من الإنترنت.

اخترنا لكم
عماد ابو الفتوح عندما عرفت أن الرواية القا...
سلمى أمين هل تمنّيت يومًا أن تتحدّث أكثر م...
 هند الجندي ينظر معظم الناس للأذكياء...
لينا العطّار/  اخترنا لكم من اراجيك...
بقلم: تركي المالكي الحياة مليئة بالجمال وا...
اخترنا لكم هدى قضاض- اراجيك  يعد ا...
منوعات
نغم كراجه/غزة يواجه الشباب صعوبة في إيجاد...
رغد السقا/غزة يمر ذوي الإعاقة بظروف نفسية...
سها سكر/غزة "لا تحسَبِ المجدَ تمرًا أ...
نغم كراجة/غزة "أمي لم تفِ بوعدها، أخب...
إسراء صلاح/غزة هنا غزة المدينة المنكوب...
عرين سنقرط/القدس ربما قطار الفرح في مدينتي...