ماذا تحتاج مدينتي؟ تجربتي على كرسي الوزارة

2020-03-10 12:30:19

إيناس قضماني/ القدس

لم يخطر لي يوما أن أكون جزءا من المنظومة الدبلوماسية في فلسطين، وأن أعمل في نظام الحكم الفلسطيني، لم أفكر مطلقا بذلك؛ وأنا الفتاة المقدسية التي لم تعي الكثير عن أجهزة الحكم، لم تنتخب ولا يحق لها أن تترشح، لا أعرف عن أجهزة الدولة إلا الشؤم الذي يأتينا من دولة الاحتلال وأجهزتها "بلدية الاحتلال" "الضرائب" "أنظمة السير" "مخالفات الهدم" "الكنيست"، وبكل شفافية أقول أني مقدسية مغيبة كسائر صديقاتي وأصدقائي في القدس، لا نؤمن بوجود دولة تظلنا وتحمينا، الشرطة في نظرنا هاجس يخيفنا، فهم إما هنا لمخالفتنا، أو لاعتقالنا، وجودهم لا يعني الأمان كما هو متوقع أن يكون، على هذه الحقيقة خرجنا من رحم أمهاتنا ورافقتنا حتى كبرنا.

درست في مدارس حكومية، تتبع للسلطة الفلسطينية في منهاجها، وتخرجت في مدرسة النظامية الثانوية، مدرسة قديرة تعرف بجدية مديراتها وشدتهن على تتابعهن، وأولهن المربية الفاضلة علية نسيبة، المؤسسة المعطاءة وهي رمز من رموز القدس نعتز ونتشرف بها وبتاريخها، خرجت أجيالا من سيدات القدس المثقفات المتعلمات ومنهن "أمي"؛ التي أصرت على دخولي لمدرستها فقد تعلمت فيها هي وخالاتي؛ أملا في أن أتعلم وأكبر على الالتزام والجدية التي تعبق سمعة المدرسة بها، وهكذا كان.

في مدرستي درسنا منهجا يسمى "التربية المدنية"، كانت شخصيات الكتاب فيه تشعرني بالسلام، يقف الطلاب في الطابور ويرفع أحدهم العلم الفلسطيني الذي لم أره مطلقا في مدرستي، تعلمنا كيف نقطع الشارع، وكيف يساعدنا شرطي المرور ويقدم لنا الإرشادات، كان الأمان مرسوم بين ثنايا الكتاب، دولة تنعم بالسلام، دولة فيها الحب ينثر على كل فرد يقطنها ويزورها، أما الواقع؛ فمغمور بالمواجهات والاعتقالات وتكميم الأفواه وصوت مراسل على التلفاز يكاد يلفظ أنفاسه لكثرة الغاز من حوله، أصدقكم قولا إذ أقول أني كنت أشعر بالأمان فقط عندما أستشعر رسومات الكتاب وألوانه، كنت أحلم بدولة فلسطينية تنعم بالراحة والسلام كنت أحلم بالوطن.

ومن المدرسة إلى جامعة بيرزيت، صرح تعليمي بتاريخ نضالي مشرف، لم أدخلها لهذا السبب صراحة! سجلت فيها لسمعتها الأكاديمية القوية، أردت أن أدرس الإعلام وها أنا وصلت، وبدأت أثابر لأتخصص الإذاعة والتلفزيون، وهناك بدأت أتعرف على فلسطين حقا، لدينا العديد من الأحزاب؟ أحزاب أخرى مختلفة عن فتح وحماس وعن الجبهة؟ فلسطين من الجانب الآخر بدت مختلفة، في الضفة الغربية تعرفت على وجهات نظر عديدة، على فتيات قويات بحثت عن نفسي فيهن ولم أجدني، وأذكر حديثا لي مع معلمتي "روان مزاوي" التي درستني مساق الأفلام الوثائقية وساعدتني وزملائي بنهجها المتحضر على أن نتقدم بمفهومنا للإعلام، يومها أخبرتها كم كنت أجهل الكثير عن الواقع الحقيقي الذي نعيشه وكيف أن الأحداث كانت مشوشة لم أكن أفهمها كما الآن؛ بدت مذهولة من صراحتي وقالت "يااااه ألهذا الحد أنتم مغيبون؟"

ناداني زميلي في العمل "بيالارا"، وأخبرني أن وزارة شؤون القدس ترغب باختيار فتاة مقدسية لتتسلم منصب "الوزيرة" ليوم واحد احتفاء بيوم المرأة، الوزارة ذاتها التي كنا قد زرناها منذ فترة زمنية قصيرة ضمن اجتماع مؤسسات المجتمع المدني معها؛ تذكرت الاجتماع والوزير، الذي كان قريبا جدا منا، إنسانا بسيطا بلهجة مقدسية واضحة وشغف للعمل التنموي لصالح القدس، وبما أني المقدسية الوحيدة في المؤسسة طلب مني زميلي أن أرسل سيرتي الذاتية وأن أطلب من متطوعة مقدسية أن ترسل هي أيضا سيرتها الذاتية، وللأسف شروط التقديم لم تنطبق عليها، فأرسلت أنا المطلوب... ونسيت الأمر.

ما هو إلا زمن وجيز حتى اتصلت بي السيدة "تهاني اللوزي" رئيسة قسم النوع الاجتماعي في وزارة شؤون القدس؛ أخبرتني أن أتحضر لمقابلة بعد يومين فقد تم قبول مشاركتي لأنافس على اللقب شابات مقدسيات أخريات، راودني العديد من الأفكار حينها، أيعقل أن أكون أنا وزيرة شؤون القدس الشابة، ما أجمله من لقب يحمل اسم مدينتي، يحمل اسم القدس الشريف، تحمست للقاء وحاولت أن أقرأ عن خدمات الوزارة وآلية عملها، وما إن استيقظت صباح يوم المقابلة حتى قلت في نفسي "لا داعي للقلق، أنا ابنة هذه المدينة ويمكنني أن أتحدث عنها".

أوصلني والدي لمقر الوزارة الكائن في بلدة الرام - ضواحي القدس، وهناك التقيت بشابة أخرى من المترشحات، صعدنا معا، كنا أول الواصلات، وبدأت المترشحات بالوصول تباعا، لم نشعر بأجواء التنافس كنا نعاون بعضنا ونشارك معلوماتنا بين بعض،وعندما حان دوري لم أشعر بذرة قلق، لا بأس إن كنت أنا من أخذ اللقب أم غيري فيكفيني أنني وصلت إلى هذه المرحلة.

مضى أسبوع كامل حتى اتصلت بي اللوزي من الوزارة وأخبرتني أنني حصلت على اللقب، أحقا أنا؟ سأعيش يومي كوزيرة! "الوزيرة إيناس قضماني" لم أحلم بهذا يوما!

تجهزت صباح يوم الخميس 5 آذار، فالدوائر الحكومية تمنح الموظفين عطلة بمناسبة يوم المرأة 8 آذار، وعلى هذا تقرر تسليمي المنصب يوم الخميس، عشت يوما وزاريا بامتياز، الأعلام الفلسطينية التي حلمت بها في مدرستي ترفرف على بوابة الوزارة، استقبلني الوزير بكل ترحاب، تناقشنا حول مشاكل الشباب المقدسي، وأنا التي أبلغ من العمر 23 عاما وخمسة أشهر، كنت أتحدث وأنا أعي بأني على قدر من العلم فأنا ابنة القدس، أعرفها وأعايش مشاكلها، إيماني بأن الشباب هو أساس النهضة، وأننا نحن المستقبل ونملك القدرة على صناعة التغيير كان مصدر قوتي، عملي في مؤسسة "بيالارا"، الذي كان بدايتي لأقف كمدربة بعمر 21 عاما أمام مختلف الفئات المثقفة والبسيطة، الكبيرة والصغيرة، كان أيضا شعلة قوة ساندتني وأنا أخوض التجربة، كنت أحدث نفسي بكل فخر "أنا أحاور اليوم الوزير وهو يسمعني" لم لا؟ ومن أقدر منا على الحديث عن همومنا ومشاكلنا نحن الشباب.

جلست على كرسي الوزير "فادي الهدمي" الذي تنحى عنه بكل ترحيب معززا ومحفزا ومؤمنا بروح الشباب، وإن كانت التجربة فخرية، وإن كانت حتى شكلية، فقد أكسبتني معرفة بشؤون القدس، وبعمل الوزارة، كنت مكان شخص يستطيع صنع القرار، وفكرت كثيرا وأنا على كرسي الوزارة، وبعد أن قدموا إلي الأوراق لأنظر فيها بعد توضيح من مدير المكتب عن آلية العمل وعن كل ورقة، يا ترى إن كنت سأتخذ قرارا واحدا مصيريا ماذا سيكون؟ ماذا تحتاج مدينتي لأتخذ قرارا يخصها؟ ماذا يحتاج شباب مدينتي؟ النساء البسيطات جدا في بيوتهن ما الذي يحلمن به؟ أطفال القدس كيف أعينهم؟ ليس الأمر ببساطة ما اعتقدت تشابكت الأفكار عندي، فمدينتي ليست أي مدينة إنها "القدس"، تعاني من أصعب المشكلات وليس فيها قضايا هامشية فكل قضاياها أساسية.

تجربة الوزارة لن تكون يوما تجربة عابرة، إنها إضافة لمفهومي عن الواقع وعن الوطن، إنها المعرفة المكتسبة عن طريق التجربة، منحني الوزير "فادي الهدمي" فرصة لم أكن أرى أنها قريبة مني لهذا الحد، أو أني أستطيع أن أكونها يوما من الأيام، لأضع نفسي بعدها على كفة الميزان، وأزن ثقافتي ومسؤوليتي ومهاراتي، وأعيد تشكيل ذاتي فهذا الوطن يحتاج سواعدنا لينهض.

اخترنا لكم
عماد ابو الفتوح عندما عرفت أن الرواية القا...
سلمى أمين هل تمنّيت يومًا أن تتحدّث أكثر م...
 هند الجندي ينظر معظم الناس للأذكياء...
لينا العطّار/  اخترنا لكم من اراجيك...
بقلم: تركي المالكي الحياة مليئة بالجمال وا...
اخترنا لكم هدى قضاض- اراجيك  يعد ا...
منوعات
نغم كراجه/غزة يواجه الشباب صعوبة في إيجاد...
رغد السقا/غزة يمر ذوي الإعاقة بظروف نفسية...
سها سكر/غزة "لا تحسَبِ المجدَ تمرًا أ...
نغم كراجة/غزة "أمي لم تفِ بوعدها، أخب...
إسراء صلاح/غزة هنا غزة المدينة المنكوب...
عرين سنقرط/القدس ربما قطار الفرح في مدينتي...