ناريمان شوخة/رام الله
قبل الثواني الأخيرة لي ...قبل أن يصحبني المخدر إلى عالم أخر أفقد فيه الإحساس بالألم.
خطت خطوتين نحوي وانحنت بارتياب لتهمس في أذني
"عسى أن تكرهوا شيئا وهو خيرٌ لكم" علها تخفف من وجعي قليلا.
لم أعي كلماتها جيدا ...فالمخدر لم يمنحني القدرة على التركيز بأي شيء أخر.
أبصرت طيفه البريء يلوح لي من بعيد بيداه الصغيرتين، كلما دنوت إليه ابتعد أضعاف اقترابي، لم أستطع اللحاق به اختفى تبخر طيفه، وبقي صوته الجائع يئن على أوتار أذني ..
أمي..أمي.
أين أنت يا صغيري؟؟أرجوك لا تذهب.
أنا هنا، أنزل إلى العالم السفلي ابتلعني الموت.
لم أعد أرى شيئا سوى جثة هامدة ممددة في نفس المكان وملقاة في نفس البياض، القطن في أنفه وفمه وأذنه في كل ثقب يمكن أن يكون ...كنت أتساءل لماذا يضعون القطن؟؟ وأنا واقفة أمام جثمانه إلى حد الفجيعة.
عانقته لإيقاظه لكنه لم يستيقظ.
ناديت عليه بكل ما أوتيت من قوة، لكن الأمر أشبه بأن تصرخ وعلى فمك شريط لاصق..لا مجيب لا حركة.
فقدت صوتي في صرخة الوجع الأخيرة.
بدأت أشعر ب نبضات قلبي وأنفاسي تتسارع حتى استيقظت مذعورة لأجد نفسي على سرير أبيض وفوقي ممرضة تلصق على وجهها ابتسامة مزيفة باردة. لأجلي
كان كابوسا..أجل كان كابوس.
ما لبثت حتى أسعفتني الممرضة بإجابة حادة تقتل بها وحشية الكابوس بشيء أبشع..
وقالت"جسمك ضعيف وأعضاؤك التناسلية غير متكاملة لتحمل مشاق الحمل اضطرينا نجهض الجنين لإنقاذ حياتك".
دفعت بلساني المثقل ورددت خلفها لإنقاذ حياتي؟!.
أي حياة؟! لو أن لإحزاننا أوزان كم يمكن أن يزن حزني الآن؟؟.
لم يكن يجد مع الحياة أن أغض بصري عن فواجعها..في كل مرة تصفعني وتميتني.
مت مرتين على يدها.
مرة عندما انتزعت مني طفولتي.
ومرة عندما انتزع مني صغيري.
وها أنا الآن انتظر الثالثة.. و ربما تكون الأخيرة.
ارتخت أصابعي التائهة التي احتضنتك في المنام كما لم تحتضنك في اليقظة.
لم تفهم شيئا من كلماتي المبهمة، أدركت فقط حزني وقالت"لا تخافي يا عزيزتي كل شيئا سيمضي...".
قلت بصوت متنهد لا تقلقي عليا فشعور الخوف في داخلي استنزف منذ تلك ليلة.
بعد صمت مطول ذهبت وتركتني وحدي لأرتاح لكنها لم تدرك بأنها تركتني وحدي لأصارع أفكاري و أحزاني.
شعرت بحاجة إلى البكاء، شعرت وكأن يدا غليظة تمتد إلى عنقي وتحاول خنقي ثانيا.
كل هذا بسببك.
تواردت علي في لحظة تلك الليلة البشعة الشيباء عندما كنت مرتدية الفستان الأبيض الذي تحلم به كل فتاة ولا أكذب فقد حلمت به أنا أيضا.
كان جميلا جدا ملئ بالكثير من حبات اللؤلؤ المغطاة من جهة الصدر و"السترس" التارف المشغول بدقة على قطعة من قماش "دانتيل" وخلفي ذيل طاووس طويل وعلى رأسي طرحة بيضاء، جلست على طرف السرير وجسدي غير المعفى من الأثقال الذهبية؛ العقد والخواتم والأساور الشبيه بوجه الثعبان والكثير من الأشياء التي لم أفكر يوما بأنها ستلامس جسدي الصغير، كانت هذه الأشياء بعض من أحلام مرت أبي وعمتي وجدتي.
كان حلمي ينحصر في خاتم متواضع وبيت ملئ بالحب والحنان و رجل يسعدني ويحترمني لا أكثر.
بدأ جسدي كله يرتجف خوفا كأنه يطلب النجدة ولكن من مَن ؟؟.
ومن سينقذني فلا أحد سوانا في هذه الغرفة، لا ينفعني الهرب الآن.
رفعت رأسي وبدأت أحدق إلى رئسه الأجرد اللامع الأشبه بقدر "الستانلس" ولحيته الخشنة كخشونة صوته عندما تغير فجأة كانقلاب الطقس من خريفي إلى شتوي عاصف.
منذ الليلة الأولى أراد استعراض رجولته علي ليلقنني درسا أحفظه طوال حياتي.
جحظ عيناه وأطلق سهام كلماته من فمه الكبير ذو الشوارب الكثيفة.
"اسمعي أنا أخذتك صغيرة عشان اربيكي ع أيدي وأي أشي بحكيلك إياه بتردي علي بس بكلمة حاضر".
اربيكي؟! حاولت في لحظة أن أقطع المسافة بين ربيعي السادس عشر وخريفه الأربعيني.
لكنني خفت، ترددت ..كيف لي أن أخاطب رجل في مقامه وسنه، رجلا لا يزال حتى هذه لحظة غريبا عني.. ففضلت الصمت.
من بين ألعابي خرجت دمية لا تفقه شيئا في عالم الزواج حتى أصبحت في ليلة وضحاها امرأة تحمل مسؤلياتها أكبر منها بكثير.
فالمرء أحيانا لا يدرك ما يتمناه، تحول فستاني الأبيض إلى كفن ميت.
وذاك السرير هو التابوت؟!
قتلت جميع أحلامي، حلمي بالتخرج والنجاح والوظيفة ووو.
خسرتها جميعها مقابل حلم واحد وهو الزواج.
كل هذا بسببك أشبعت رغبتك الأنانية بي فعلت كل شيئا بالإكراه رغما عني.
كم أنت فظيع ومريع وشنيع.
حتى وصلت إلى هنا إلى هذا السرير الأبيض.
كان موتك هو الحل الوحيد للتخلص منك.
ما أجملها كلمة أرملة مقابل العيش معك.
وهل من المعقول أن تكون وفاة صغيري هي الحل ؟!
لمعت في ذهني أية "عسى أن تكرهوا شيئا وهو خيرا لكم.." .
عندما يسقط الإنسان أرضا أكثر من مرة تمنحه الحياة فرصة أكبر ليكون أقوى مما مضى، استجمعت قوتي .. مكاني ليس هنا، الآن يجدر بي في هذه الأيام أن أخطط لمستقبلي التعليمي وأن أعوض ما فآتني إلى أن تأتي الميتة الثالثة .
للتنويه:
هذه قصة مستوحاة من قصص حقيقية...وعندما قررت أن أكتب عن الموضوع هاجمني البعض وقالوا أنها " دقة قديمة" انتهت، ولكنها في الحقيقة لا زالت موجودة خلف الكثير من جدران البيوت، وعسى أن تصل لإحداهن قبل إن تقبل على زواج مبكر، فالسعادة والتعاسة قد تبنى على قرار واحد نحسن أو نخطئ اتخاذه.