درس طفولة: العطاء السلبي

2016-05-23 07:52:03

خالد داوود/ نابلس

نسمع دائما بمقولة: "يضع سره في أضعف خلقه"، وهذا بالضبط ما حدث؛ فكثيرا ما أتعلم دروسا هامة من أخي الصغير، وهو طفل نصفه مشاغب، والنصف الآخر متمرد، في السادسة من عمره، ويلعب دوما في الحي مع صديق له في مثل سنه؛ والداه على مشارف الطلاق، ويعيش كل منهما بعيدا عن الآخر، ولكن محكمة شؤون العائلة والخدمات الاجتماعية أقرتا بعدم أهلية الأم لحضانته، وسلمت حضانته لأبيه. وبما أن أباه لا يملك الوقت الكافي والقدرات اللازمة لرعايته، أرسله إلى بيت أمه؛ جدة الطفل؛ ليعيش معها ومع بناتها.

كنت ألاحظ أن الطفل غير مستقر نفسيا، وقليل الثقة بنفسه، يخاف، ولا يملك الجرأة الكافية ليجاري أبناء جيله في اللعب، وكان يعتمد في قراراته ومبادراته على قوة أخي وثقته بنفسه.

وحاولنا تعويض هذا الطفل عما يعانيه، وأظهرنا تعاطفنا معه في كل مرة يزورنا فيها مع أخي، حيث كنا نعطيهما مبلغا من المال ليشتريا من دكانة الحي ما يشاءان. وهذا كان يغيظ أخي الصغير كثيرا، ويسألني على انفراد: "لماذا تعطونه مالا؟ أنتم لستم مسؤولين عنه"! وكنت أرد: "نحن نعطيه مالا تعاطفا معه؛ فهو يعيش بعيدا عن أمه وأبيه كما تعرف".

- وماذا في ذلك؟

- قد يكون الأمر محزنا له، ونحن نريد أن ندخل إلى قلبه السرور مثلك.

- وما دخل النقود؟

- قد تجعله سعيدا مثلك حين يشتري ما يريد.

- ولكنه دائما سعيد بالنقود التي يحملها، إنه يحمل أكثر مني، جدته تعطيه الكثير الكثير، وحين أكون معه عندها لا تعطيني شيئا، فكيف تعطونه أنتم؟

- أنت تعيش مع أمك وأبيك. وعندما تبكي وتحتاج أحدا تجد أمك إلى جانبك ولا أحد إلى جانبه.

- وإن يكن؛ لديه جدته. ثم عندما سافر بابا وماما بقيت معكم هنا، ولكن لم يهتم أحد لأمري، ولم تعطني جدته نقودا!

صمت حينها؛ فأحيانا يرى الأطفال الأمور من جوانب أخرى ويظهرونها لنا، ولم أعد أجد إجابات على أسئلته، وفكرت أن أشرح له أكثر عن الصعوبات النفسية التي يمر بها الطفل في ظل صراعات والديه خلال الطلاق حتى أبرر له سبب عطائنا.

لا.. لا أريد أن أعكر صفو طفولته ولا علاقته بصديقه، ثم حقا ما شأن هذا بالأمر؟ صدق أخي حين سأل: وما دخل النقود؟ هل يحتاج هذا الطفل المال حقا؟ كلا.. فلديه ما يكفي.

هل إعطاء الناس المال أو الطعام يجيب بالضرورة عن الحاجات التي يريدونها؟ أم عن حاجتنا نحن للشعور بالاكتفاء بأننا قدمنا شيئا والسلام. إن العطاء هو أن تمنح الآخر ما هو في حاجة إليه، وقد تكون هذه الحاجة نفسية، أو مادية، أو اجتماعية، ويمكننا تقديمها بأبسط الأمور دون أن ندري؛ ربما يكفي بعض الاهتمام، والمحبة، وأن نشعر الآخر أننا إلى جانبه. ثم علينا أن نحذر من العطاء السلبي؛ ذاك الذي يرتكز على الشفقة، وقد يؤلم الطفل ويشعره بضعف حيلته، وقد يعلمه مع الوقت الاستعطاف للحصول على ما يريد، وقد يكون من الخطر أيضا أن يتعلم أخي هذا الوجه للعطاء، والتذرع بالعجز والسلبية للحصول على ما يريد.

ويبقى سؤال أخير عالقا في ذهني، أي العطاءات أفضل: تلك التي توزَع بالتساوي على الناس فيبدو أنهم نالوا نفس الحصة في النهاية، لتبقى الثغرة الأساس بينهم ذاتها؟ أم تلك التي تسد الثغرات الأساس وتوزع العطاءات بأسلوب مختلف حسب نوع الحاجة ومقدارها لكل فرد؟ والرابط للإجابة في النهاية ما قاله جبران خليل جبران: "أنت رحوم إذا أعطيت، لكن لا تنس وأنت تعطي أن تدير وجهك عمن أعطيت حتى لا ترى حياءه عاريا أمام عينيك".

شكرا أيها الصغير.. فرغم ما حمله غضبك من غيرة طفولية خفية، إلا أنك أتحت لي الفرصة لأعيد النظر في الأمر من جديد.

اخترنا لكم
عماد ابو الفتوح عندما عرفت أن الرواية القا...
سلمى أمين هل تمنّيت يومًا أن تتحدّث أكثر م...
 هند الجندي ينظر معظم الناس للأذكياء...
لينا العطّار/  اخترنا لكم من اراجيك...
بقلم: تركي المالكي الحياة مليئة بالجمال وا...
اخترنا لكم هدى قضاض- اراجيك  يعد ا...
منوعات
نغم كراجه/غزة يواجه الشباب صعوبة في إيجاد...
رغد السقا/غزة يمر ذوي الإعاقة بظروف نفسية...
سها سكر/غزة "لا تحسَبِ المجدَ تمرًا أ...
نغم كراجة/غزة "أمي لم تفِ بوعدها، أخب...
إسراء صلاح/غزة هنا غزة المدينة المنكوب...
عرين سنقرط/القدس ربما قطار الفرح في مدينتي...