بهاء توام/ رام الله
صنف أبراهام ماسلو؛ عالم النفس الأمريكي، حاجات الإنسان حسب الأولوية، في هرم، يقوم على قاعدة إشباع الحاجات الفسيولوجية؛ كالطعام والشراب، ويتبعه عدد من الحاجات المرتبة حسب الأولوية؛ كالحاجة الاجتماعية، التي يتلوها تحقيق الأمن، وينتهي إلى القمة بتحقيق الذات. وهو هنا يتناول الفرد كفرد، ولا شك أن هذا التأطير النظري لأولويات الإنسان على هذه الشاكلة، يشكل انعكاسا للقيم الفردية التي تحيط ببيئة ماسلو.
وكان لهذا التصنيف الهرمي للحاجات أن تم تعميمه لتداوله نظريا وأكاديميا، ليشمل باقي المجتمعات، ومنها ما يسميه بعضهم "العالم الثالث"!
وحين ننتهي من تلك التسمية العنصرية، نجد صفاء، خلال إحدى المحاضرات في جامعة بيرزيت، تفند مزاعم ماسلو الهرمية، مستندة إلى ما يقوم به الأسرى المضربون عن الطعام، من هدم لذلك الهرم، في إطار قد يصح أن يوصف بـ"النظري"!
لقد حطم الأسرى المضربون عن الطعام هرم ماسلو منذ زمن بعيد، وثاروا على الترتيب الهرمي للحاجات من القاعدة حتى القمة، حيث تم استهداف قاعدة "الحاجة للطعام والشراب أولا"، ولاحقا بناء رؤية أخرى للعلاقات الاجتماعية؛ فأثبتوا أن الكرامة هي الأولوية والأسبقية على غيرها. ومرورا بباقي الأولويات "الماسلوية"، ومنها "نظرة الآخر للفرد وتحقيق الذات"، أخذ الأسرى المضربون عن الطعام يتحدون إدخال القيم الفردانية والإملاءات المفروضة على المجتمع الفلسطيني، ليثبتوا أن للذات الجماعية الأولوية على الذات الفردية، ويعزز ذلك الطرح أن الحركة الأسيرة شهدت مرارا إضرابات جماعية وتضامنية مع أسرى بادروا للإضراب عن الطعام.
وكان انعكاس تلك الممارسة على المجتمع الفلسطيني أن بادر الكثير من أفراده إلى تنظيم الوقفات والمظاهرات التضامنية، إشارة منهم إلى جماعية الذات الفلسطينية، في لحظات ومآثر النضال خاصة، وعلى قدرة الأسرى، بنضالهم، على توحيد الصف الفلسطيني ميدانيا، وتحد للانقسام على المستوى "السلطوي".
إذن فقد أثبت الأسرى بممارستهم هذه أن اعتبار التنمية الطريق الوحيد لبناء الدولة، على غرار الهرم الماسلوي، الذي يبدأ بالفرد وينتهي به، أمر لا ينسحب على المجتمع الفلسطيني الذي يقبع تحت نير احتلال كولونيالي لا يرحم بشرا ولا حجرا.
ثم تأتي الفردانية، والقيم الليبرالية الجديدة، كوسيط لفتح الأسواق، والتوجه نحو الخصخصة، وتوفير احتياجات الأفراد عبر السوق، وليس عبر سلطة سياسية أيا كان شكلها! ولكن نضال الشعب الفلسطيني، ونضال أسراه المضربين بالذات، رغم كونهم في القيد، كانا الأقدر على توحيد الصف الفلسطيني ميدانيا من جهة، ومن جهة أخرى يعبر الأسرى حق تعبير عن حاجات أي شعب خاضع للاحتلال، والتي تتمثل أساسا بالحرية والكرامة.
إن ممارسة الأسرى تلك تثبت أن إعادة ترتيب الأولويات، والثورة على المفاهيم والقيم الدخيلة، ليسا مستحيلين، بل يلزمهما إرادة تحددها الرؤية الواقعية. والحديث هنا لا يدور عن الواقعية الاستسلامية، بل عن الواقعية المحفزة على النضال، والهادفة إلى تغيير الواقع.
ولم لا ينظر بعضهم إلى تلك الممارسة التي رتبت الأولوية بناء على الكرامة والسعي للحرية، كأن يفطن المقترض لأولوية الكرامة والحرية على قرض المركبة أو الشقة أو غيرهما، وأن يأخذ بعضهم الآخر بعين الاعتبار أولوية الذات الجماعية على الذات الفردية، ويرفض إملاءات الدول المانحة، وأولوية النظر إلى الشعب على أنه تحت الاحتلال، وليس كما يراه "المجتمع الدولي"؛ شعبا جل مشكلته تحقيق التنمية دون أن تمس تلك الرؤية الحقيقة الواقعة المشار إليها فيما سلف.
كانت هذه ممارسة من هم في القيد، وكم هو غريب أن يكونوا أقدر على التأثير في الاتجاه الصحيح ممن هم خارج جدران السجون!
مسألةٌ أخرى ذات صلة، تتمثل في السؤال التالي: هل من حاجة "للتأطير النظري" لتلك الممارسة؟
ومرد ذلك السؤال إلى بداية الحديث عن هرم ماسلو؛ الذي صاغه في إطار نظري يستخدم لتفسير السلوك، لكن ذلك التفسير كان بالدرجة الأولى متأثرا بالقيم الليبرالية والرأسمالية حيث عاش ماسلو في الولايات المُتحدة الأمريكية. الغاية بسيطة جدا: لماذا لا يكون هذا التأطير النظري – إن أمكن – لممارسة الأسرى إضرابهم عن الطعام، وانعكاساتها على ما وراء جدران السجون، في محل تعميم على كافة الشعوب الحرة والمضطهدة؟ ولم لا يكون الفلسطيني نموذجا لتلك الشعوب بنضاله متعدد الأشكال، ورأس حربة في الدفاع عن الحرية والكرامة، خاصة وأن الأسرى رفضوا الاندماج في المنظومة المرسومة دوليا؛ مفاهيميا وممارسة...!
وفي "ثورة" على أولوية كتابة النص بمقدمة وعرض وخاتمة، وبعد الانتهاء من الأخيرة، قد يشار إلى ممارسة إضراب الأسرى عن الطعام، على أنها ممارسة فردية غالبا، إلا أن وعي الشعوب ونضالها ما هو إلا نتيجة لتراكمات "كمية" لتلك اللحظات "النوعية".