غدير منصور/ بيالارا
برفقة صديقات الدراسة، وفي إحدى لقاءاتنا النادرة بعد التخرج، أخذنا نستحضر ذكريات الجامعة وسط تعالي الضحكات، وتشابك الحديث بطريقة تحتاج جهدا لاستعادة الهدوء وتحقيق الإصغاء، فاستدركت بصوت أعلى من المعتاد بتذكيرهن كيف قام أحد زملائنا بقراءة شعر قال إن أخته كتبته، فاستمعنا دون أن تحرك الكلمات فينا فضولا ولا إعجابا، بل كنت أعد الثواني حتى ينتهي من قراءة قصيدته الساذجة المملة.
وبعد انتهائه جاملناه بأنها محاولة موفقة، وبين بعضنا نتهامس بأنها محاولة شبه فاشلة، شبيهة بموضوع إنشاء يكتبه طالب مدرسة مجبرا، وما كانت تستحق حتى تجميعنا، وبعد أن تأمل زميلنا ردة فعلنا، دون أن يخفى عليه أننا نتصنع ذوقا، انفجر ضحكا، وهو يردد: أهذا حكمكن على الكاتب الفلاني؟!
كانت القصيدة لشاعر مشهور جدا في فلسطين، بل هو رمز لجمال الكلمة ورقي القصائد المثقلة بالرمزيات العميقة، يومها أدركت أن لاسم كاتب النص قدرة على تحوير حكمنا بطريقة مذهلة، وربما لهذا الموقف رسوخ في ذاكرتي جعلني أستحضره مكتوبا ليكون عبرة لمن يقرأه.
يصبح للكلمة معنى آخر غير الذي تقدمه وغير ما يتبادر إلى ذهنك عند سماع تلك الكلمة مجردة من مصدر قائلها، ومن المؤسف أننا أحيانا نطلق الأحكام على الشعر والخواطر والمقالات وغيرها من القوالب الأدبية والفنون الكتابية، تبعا لشهرة الكاتب أو مكانته، فنمجد بعض النصوص ونقتبسها حتى دون أن نشغل تفكيرنا في أماكن ضعفها، أو حتى نتأمل بناءها بنظرة نقدية لا نظرة إعجاب مسبق، ومن الظلم ما يتركه هذا السلوك على نصوص أخرى دفينة تحت ركام الأحكام المسبقة على ضعفها، أو فلنقل عاديتها؛ لأن مصدرها كاتب لازال في طوره الأدبي الأول، وهذا ما يظهر بشكل جلي في الكتابات التي يقتبسها الكثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي لنفس العلامات والشخصيات الأدبية المشهورة، وعادة نفس الكتاب يحظون باهتمام إعلامي فيزدادون بريقا وحضورا.
أستحضر الكلمات وقد تبادر إلى ذهني موقف آخر، كان قد رواه لنا أحد أساتذة اللغة العربية في جامعة بيرزيت، حين ذكر أنه اشترى ديوان شعر لكاتب فلسطيني مشهور ولم يستفز حسه الشعري أي من محتواه، فما كان منه إلا أن ألقى الكتاب في مدفأة الحطب. ومن الغريب أنه حين استمع لإحدى القصائد التي احتواها الديوان من صديقه، كانت ردة فعله مختلفة تماما؛ فقد أعجبته، وكأنه يتذوق كلماتها للمرة الأولى، دون أن يعلم أنه قرأها من قبل، وحكم عليها إعداما بالحرق. وهذا الموقف يأخذنا إلى منحى آخر في تفسير تذوق النص الأدبي، مفاده أننا قد نظلم بعض الأدباء في أحكامنا؛ لأن الحالة المزاجية لم تسعفنا لتأمل المعنى البعيد الذي يريده الكاتب، أو أن قراءة النص الأول الذي لم يكن بمستوى توقعاتنا قد دفعنا لنسم كتابا كاملا بحكم جائر.
ولثنائية المفارقة بين القول والقائل تنبه الدكتور في علم الاجتماع علاء العزة، حيث كان يرفض أن يكتب طلبته أسماءهم على ورقة الامتحان، بل أن يكتفوا بتدوين الرقم الجامعي. وردا على سؤال أحد الطلبة: لماذا الرقم لا الاسم؛ لأن ذلك سيجعل تقييم الامتحان وتوزيع الأوراق أكثر صعوبة عليك؟! رد العزة:أخاف أن أميز في التصحيح بين طلابي بشكل لا إرادي، فأتذكر أن الورقة لطالب مجتهد فأبرر ضعفها بطريقة لا واعية، أو أرى ورقة لطالب مهمل بطبعه فأهملها ولا أعيرها اهتماما فأظلمه.
وإذا ما تأملنا الموضوع بطريقة أكثر شمولية، تتجاوز حدود الحكم على نص أدبي، أو تصحيح ورقة امتحان، نجد أننا حتى في حياتنا الشخصية والعملية، كثيرا ما نقع في مشاكل سببها سوء فهم ناتج عن توقعاتنا، وأحكامنا المسبقة على من قال لا ما قيل، فنتقبل النصيحة من أشخاص دون غيرهم، ونحتمل نقد بعضهم ونهاجم سواهم، ومن هنا يجب علينا أن نتنبه إلى هذه الجزئية بشيء من الحرص؛ لتكون أحكامنا أكثر اتزانا وإنصافا، فالأجدر أن نغوص في الكلمة وما وراءها، لا أن نصبح جزءا من من هالة تلتف حول شهرة الكاتب على حساب إعمال الحس النقدي.