بلاد "البسطات"... أوطاني

2016-01-30 13:25:58

هبة بطة / نابلس

جلس بجانبي، معشقا برائحة الدخان العربي، وبانحناءة ظهره اللامبالية، وابتسامته الفاترة. "أهلين حبيبي زمان عنك والله"، خاطبه سائق التكسي بدهشة وبصوت مجلجل.

"والله هي طلعتي من الحبس"، رد عليه بفم مليء بالسخرية، وبحركة يد سبقت كلامه. بادله السائق الحديث: "من عند مين بالزبط"؟ عدل جلسته، وأخذ يفرك وجنتيه وفروة رأسه، وأجابه: "هالمرة من عند اليهود، ويمكن هلأ يجو ياخدوني ولاد عمهم، خلص بعرف حياتي "ترانزيت" سجون، وعادي بطلت تفرق! كل مرة بتكون شنطتي عند باب البيت، عشان ما أتغلب بالأواعي، على السريع بيجوا باخدوني، ما بغلب أنا"!

ضحكة صارعت فمه بعد أن قالها، مزق فيها تعبه.

نظر السائق في المرآة ليطل فيها على احمرار وجنتيه، وسأله:

-"هه، وشو ناوي تعمل هلأ"؟

-"والله، بدي أحاول أراهن على وضعي شوي، بلكي سلكت". وعدل الأسوار التي كان قد صنعها لنفسه طيلة وجوده في السجون.

-"أيوا؟ كنك خايف، ولا خلص تبت"؟

-ههه كيف بتفكر يا زلمة! أنا وطني ما بدو اياني؟ والله ما بهمني التعذيب في السجون جسمي أتعود!

-كيف يعني؟

-"أنا لما بدي وطني، ووطني ما بدو اياني، شو أعمل أنا؟ ها؟ قل لي".

وسرعان ما تحولت لهجته اللامبالية إلى حازمة، وتجمعت الكلمات في حلقه عندما تحدث عن الوطن، الجزء الذي يأكل من قلبه عشقا ووجعا....

لملم سائق سيارة الأجرة نظره وركز على الطريق! ورتب كلامه مرة أخرى: "معلش يا صديقي"....

هدوء يعم السيارة، وفجأة انبجس الكلام منه مرة أخرى: "يعني أنا لما أكون حامل الأكل والطرود، وطالع بنص القصف عشان أطعمي عيلة وقت الاجتياحات، وتيجي نفسها العيلة تتبرا مني! شو بتتوقع مني؟! ومش مرة، ولا مرتين، ولا تلاتة...".

صمت برهة وأكمل:" طيب بلاش، انس خلص، هاد طبيعي الحكي، ولما أطلع من السجن تعال شوف كيف بطلعوا علي الناس، بدي أنسى المقاومة كلها! يحرم علي إذا برجعلها"!

-"بعرف يا صديقي وهلأ شو بتحاول تعمل؟

-راجع أفتح بسطتي...

-بسطتك!

-آه بسطتي! ليش مستغرب؟ الوطن والشعب بدهم مني بسطة!

-طيب وكيف وضعك؟

-أحسن من هيك ما بتلاقي!

-جد بتحكي؟

-اه شو بدي أكثر من هيك: بسطة وبنص وطني.

قالها واجتاح الهدوء ملامح وجهه من جديد وارتخت عضلاته، وانتزع سيجارة من جيبه وأشعلها، ونفث الدخان، ليكمل: "ولك مش أنت كنت معي بالسجن، وهيك سواق تكسي بهالوطن".

-الله يرزقنا، ويهونها!

-بجد أنا مبسوط بالبسطة! لأنو بكل بساطة صارت كل وطني.

-ههه، أخرى شوي بتسكن فيها يا زلمة، مالها مقبعة معك!

-هو بالك أنا مش ساكن فيها، بكفي وراها حيط، وحيط ماسك حالو.

-خلص راح فيها الزلمة... تمتم بصوت عال، وأردف: مالك يا زلمة! صرلك شي!

-أنا بحكي جد، هم يا عمي يتركوني عليها، وخلوني متركي على حيطها.

-شو قصة الحيط؟

-الحيط، آخ.... هو اللي بذكرني بالوطن! هو اللي بطرطش عليه وطنية!

-والله إنك شطبت! وين ضاربينك آخر مرة وأنت مسجون....؟

-اه وبحط عليه كل صور الشهداء القديمة والجديدة! يا إلهي ما أجملو من حيط، حيط وطني بامتياز، هو اللي باقيلي من وطنيتي!

-إيه الله يخليلك الحيط ووطنه!

-اه والله، الله يخليلي إياه، هو والبسطة... لو تشوف ما أحلانا إحنا الثلاثة!

-بشك إنو الضربة كانت على الراس.

-كانت بالقلب قبل ما تكون على الراس.... ولك يا ترى كم بسطة بهالبلد!

-هه كثير كثير، كل واحد زي أشكالك بفتح بسطة.

-مش رح نلحق نعد! ولا يروح فكرك لبعيد "هي بس مجرد فكرة مشاريع ناجحة بالوطن وللوطن، وما بدي شعبي يشتري مني!

لأنو البسطة ببساطة صارت وطني وأهلي وناسي. وهدول ما بينباعوا!

اخترنا لكم
عماد ابو الفتوح عندما عرفت أن الرواية القا...
سلمى أمين هل تمنّيت يومًا أن تتحدّث أكثر م...
 هند الجندي ينظر معظم الناس للأذكياء...
لينا العطّار/  اخترنا لكم من اراجيك...
بقلم: تركي المالكي الحياة مليئة بالجمال وا...
اخترنا لكم هدى قضاض- اراجيك  يعد ا...
منوعات
نغم كراجه/غزة يواجه الشباب صعوبة في إيجاد...
رغد السقا/غزة يمر ذوي الإعاقة بظروف نفسية...
سها سكر/غزة "لا تحسَبِ المجدَ تمرًا أ...
نغم كراجة/غزة "أمي لم تفِ بوعدها، أخب...
إسراء صلاح/غزة هنا غزة المدينة المنكوب...
عرين سنقرط/القدس ربما قطار الفرح في مدينتي...