كلمة لها مفعول السّحر

2019-09-28 06:45:34

لبنى عبد العزيز أبو جلهوم/غزة

يكفي اتكاء أحدهم على مكتب موظف يجلس خلف مكتبه؛ ليهمس في أذنه بكلمة ذات مفعول سحري، لتتجاوز يا رحمك الله جموع المنتظرين والمتألمين والمستيقظين باكراً من نومهم ليلحقوا بالدور، أي دور هذا لا أعلم، لا يعلمون أن الدور محكوم بكلمات سحرية يُلقيها الناس في آذان بعضهم ...

بينما أنتظر كنت أصغي لا إراديا لحديث امرأة لجارتها في دور الانتظار الطويل الممل، هي حقاً تصبح جارة لطول مكثهم وإقامتهم في ذاك المكان، إنهم يتجاورون بالهم المشترك، تقول: انسللت من حضن ابنتي الصغيرة قبل أن تفيق بكل هدوء كي لا تستيقظ، لقد ذهب زوجي لعمله، وآمُل أن أعود بسرعة فلا أحد في البيت مع الصغار ، سألتها جارتها : الساعة كم جئت؟

فأجابتها : الساعة الخامسة فجراً.

أعرفت تلك المرأة أنها حتى لو باتت ليلتها في المستشفى، فإنها لن تكون أول واحدة تُعرض على الطبيب، ببساطة لأنها لا تملك أحداً يهمس لها في أذن ذاك الموظف ...

أتأمل ذاك الرجل المُكلف بمناداة المرضى الواحد تلو الأخر، وهو يحشر الورقات التي تآتيه من هنا ومن هناك، هذه ورقة فلان ابن فلان، ثم تأتيه مكالمة هاتفية فتأتي امرأة قد تجاوزت صفوف الواقفين جميعهم (أنا من طرف فلان إلي كلمك ع الجوال) فيُطاطيء رأسه أن استريحي ويأخذ منها الورقة لتكون أولى الورقات، لا لم تحتج تلك المرأة لورقة أبداً ؛ لقد جاء الموظف عينه بورقة كتب عليها اسم تلك المرأة لِيُقنع عيون جمهور الجالسين أن لتلك المرأة اسم هي لا تحتاج لدور تصطف فيه أصلاً، ألا يشعر بتأنيب الضمير وهو عائد إلى بيته، ألا يخشى على أبنائه من دعوة واحدة من تلك النساء الجالسات...

بينما أنا جالسة وأتأمل حتى جاءت امرأة تتحدث لرجل الأمن الذي يقف لتنظيم جمهور المرضى، تحدثت كثيراً جداً لكن للأسف كل استعطافاتها لم تُجدِ نفعاً فقد ذهبت محاولاتها سُدى إلى أن صرخ فيها ذاك الرجل لتجلس وتنتظر كبقية الجالسين، لا أعلم بأي حق صرخ فيها تلك الصرخة التي كانت كافية لتوجيه كل النظرات صوب تلك المرأة المسكينة وكأنها قد ارتكبت جرماً فاحِشاً يستحق كل هذا الصوت ويحدث ذاك الصَّخب في مكان لا يستوعب أكثر ...

ذاك الرجل ذاته هو الذي أدخل رجلاً وزوجته لأن فلان قريب الموظف الفلاني قد همس في أذنه الكلمة ذات المفعول السحري فأدخلهما إلى الطبيب بسرعة، أيعقل أن يأتي أحد من الجالسين لِيُناقشه فيما يفعل ألا يرتدي ذاك الموظف البدلة الزرقاء التي تكفي وحدها فقط للجم أفواه الجالسين ، أيعقل أنه لم يشعر بنظراتهم تخترقه وتمزقه، ألم يستمع إلى تمتمات الجالسين ودعواتهم عليه، بأذني سمعت تلك تقول لجارتها: شايفة كيف بيدخلهم حسبي الله عليه ) طبعاً هي لم تتجرأ أن ترفع صوتها فتكون نهايتها الطرد من كل المكان أو صرخة كتلك التي صرخها قبل قليل في تلك المرأة المسكينة...

مقابلي جلس فتى خرج لتوه من غرفة الطبيب وقد طرده السكرتير لأن روشتة التحليل قد ثنيت منه أثناء جلوسه، لقد مل الانتظار وفقد السيطرة فتفشش في تلك الورقة البائسة...

فتح السكرتير المكلف بمناداة الأسماء باب الخلاص الذي تتوجه نحوه العيون وتشرأب الأعناق وتتعلق به القلوب الحزينة المنهكة ، كل من كانوا جالسين توقعوا أن يناديَ على أحدهم، لكن ويا للأسف لقد أخرج رأسه من الباب ليمهد الطريق لرجل من معارف الطبيب، لا يعقل أن ينتظر ثوانٕ حتى....

أحدهم كان يُطَمئن الجالس بجانبه أن اطمن لقد وصيت عليك فلاناً وهو سيتولى أمرك لا تقلق، يقول له : (هو في شيء بيمشي غير بالواسطة، والله لولا فلان الله يرضى عليه كان عملية الولد لسة في 2020 وهو حالته مش مستحملة)

رد عليه ذاك الرجل : ( والله صحيح كلامك أي مكان تروحه إذا ما لك معارف بتضيع ببن الرجلين) أجل صدق الرجلان في كلامهما للأسف...

استرقت النظرات بين جمهور البائسين فإذا بهم في صفوف طويلة عريضة لا نهاية لها، ذاك رجل عجوز مريض يستند على عُكازه، وهناك تجلس فتاة بصحبة أمها المريضة التي لا تقوى على جلسة كتلك التي كانت تجلسها رُغماً عنها لتنتظر الدور، كانوا صامتين، لكن عيونهم كانت تحكي الكثير، ترفض المهازل التي تجري أمام عيونهم، لكن لا مستمع للصرخات التي تفيض بها دواخلهم، ولا مُفسّر لنظراتهم الثكلى إن نظرة متمعنة في عين إحداهن وهي تنتظر على مضض لتلك التي تسرق دورها بدون أي رحمة أو شفقة لأن قريبها فلان أو علان، ألا يؤلمها ضميرها، ما هذه التُرّهات أيعقل أن يكون الضمير موجوداً في مكان يحدث فيه كل هذا وعلى مرأى ومسمع الجميع، وصاحب الضمير الحي ماذا سينفعه ضميره حين يرى ما يرى ويسمع ما يسمع، سيجد نفسه تلقائيا يدور في تلك الدائرة المفرغة ويشارك في صناعة المأساة بلا أي تخطيط أو إرادة محضة، قد يرفض عقله ما يحدث، لكن أفعاله ستوافق من تلقاء نفسه، أحيانا يكون الضمير نقمة أو أمر مستهجن، قد لا تجد من يفهمك، وقد تجد من دفن ضميره في منطقة ما في أعماق نفسه وستجده يُربت على كتفيك أن (خلي ضميرك ينفعك)..

في غُرفة الطبيب صدقاً هي غرفة الخلاص يجلس طبيب هاديء يتحدث بصوت أهدأ وأعصاب أكثر استرخاء، أشار لتلك المرأة التي جاء دورها أن أغلقي الباب خلفكِ حتى لا يتسرب الهواء الساخن من الخارج ويمتزج مع هواء المُكيف البارد لقد كانت الغرفة باردة كالثلج، أكان يقصد ألا يتسرب الهواء أم الصوت أم كلاهما، أيعقل أنه لا يُريد سماع أصوات المنتظرين في الخارج، جلست المرأة على الكرسي المقابل لمكتب الطبيب، قام بفرد الصور والتحاليل والأوراق، وألقى نظرة خاطفة على الورقة الصغيرة الملصقة على طرف التحليل وبنظرة كان مِلْأَها التعجب قال للمرأة : ( أنت مش حاجزة موعد) تململت المرأة واستدرك هو نفسه، وقام بإزالة الورقة الملصقة التي توضح أن موعد تلك المراجعة بعد شهر وألقاها في السلة التي تقع على شماله، لم يسمح لضميره الذي كاد يستيقظ في تلك اللحظات أن يبقى مُتنبِهاً لجمه، بالتأكيد تكررت تلك الحالات عليه بهذا الشكل وبذات الطريقة هو يفهم جيداً النظام المتبع، قال للمرأة : (وضعك تمام، وتحاليلك منيحة، بالسلامة وزورينا كل شهرين للاطمئنان

ردّت هي عليه : شكراً ويعطيك العافية يا دكتور وهمت بالخروج وأكد عليها أن تغلق الباب مرّة أخرى، أيعقل أن تكون زيارة للطبيب لم تسنغرق العشر دقائق كلّ هذا الانتظار وكل ذاك المقت وكل ما حدث ويحدث...

الجميع يُكمل الدور البائس ويُشارك في إكمال إغلاق تلك الحلقة..

الصورة من الانترنت

اخترنا لكم
عماد ابو الفتوح عندما عرفت أن الرواية القا...
سلمى أمين هل تمنّيت يومًا أن تتحدّث أكثر م...
 هند الجندي ينظر معظم الناس للأذكياء...
لينا العطّار/  اخترنا لكم من اراجيك...
بقلم: تركي المالكي الحياة مليئة بالجمال وا...
اخترنا لكم هدى قضاض- اراجيك  يعد ا...
منوعات
نغم كراجه/غزة يواجه الشباب صعوبة في إيجاد...
رغد السقا/غزة يمر ذوي الإعاقة بظروف نفسية...
سها سكر/غزة "لا تحسَبِ المجدَ تمرًا أ...
نغم كراجة/غزة "أمي لم تفِ بوعدها، أخب...
إسراء صلاح/غزة هنا غزة المدينة المنكوب...
عرين سنقرط/القدس ربما قطار الفرح في مدينتي...