تحقيق صحفي _سوزان الطريفي/رام الله
يبدأ الطفل حسن سعيد صباحه كل يوم بعد أن يأخذ مصروفه الرمزي من والدته، من البقالة القريبة من منزله، حيث يشتري سيجارة بشيقلين، كان يفترض بهما أن يكونا مصروفه الذي سيشتري به وجبة فطوره بعد إرهاق ثلاث حصص متتالية. إلا أنه يجلس في إحدى أزقة المخيم خوفا من أن يراه أحد؛ ساحبا دخانه نفسا تلو آخر.
وتزداد هذه الظاهرة حدة يوما بعد يوم؛ فمن المسؤول عن حياة هؤلاء الأطفال؟ وما سبب هذه الظاهرة؟ ومن يملك الحل؟
يقول م.ز، 16 عاما: "بدأت أدخن قبل عامين، وحاولت جاهدا تركه، لكنني لم أستطع؛ فقد تعلقت به كثيرا، رغم عدم معرفة عائلتي طيلة هذه الفترة". ويعترف أن والده يشك في أنه يدخن، ويقول: "إذا تأكد أنني أدخن فسأتعرض للعقوبة"... ويعتبر أن ذلك ربما يكون الحل لمشكلته.
وقد وقع ق.ز، 16 عاما، ضحية رفقاء السوء، إذ يقول: "بدأت أدخن وأنا في الثانية عشرة من عمري، حيث كنت مع صحبة تدخن، ومرة تلو أخرى، أغروني فبات التدخين جزءا أساسا من حياتي"، ويتابع: "أحب التدخين لدرجة أني على استعداد لتدخين علبة سجائر كاملة في يوم واحد"!
صدفة قصة نجاح!
وصادفت قصة نجاح لطفل تغلب على نفسه، وأقلع عن التدخين، إذ يقول أ.ك، 16 عاما: "بدأت أدخن وأنا في الثانية عشرة من عمري، حيث كنت أشارك أصدقائي في جمع ثمن علبة سجائر، وتوزيعها بيننا. وعندما علم أخي هددني بالضرب، وبحمد الله تركته، ولن أفكر بالعودة إليه مجددا".
ما لاحظتهُ في أعين الأطفال، وسمعته منهم، أكبر بكثير من أن يكتب في كلمات وأسطر موجزة؛ فقد رأيت حزنهم وندمهم على ما هم عليه رغم صغرهم. يعتبون على من يحطمون أجمل أيام طفولتهم، مشيرين بأصبع هنا وهناك، ويتبادلون بينهم عبارات مثل: "نعم؛هذا يبيع، وذاك يبيع....".
يبيعون وينكرون
حساباتهم بسيطة؛ فهم يكسبون من بيع السجائر "نفلا" بنسبة 100%؛ فإذا كان ثمن العلبة الواحدة 22 شيقلا، فعند بيعه مفرقا يصبح ثمنهُ 44 شيقلا. يقول أ.م؛ صاحب بقالة، إنه كان يبيع السجائر للأطفال، ولكنه توقف عن ذلك. أما صاحب مؤسسة استهلاكية فيبين أنه غير مستعد لبيعه مفرقا مهما كان الربح مغريا؛ فـ"صحة الأطفال لا ثمن لها"!
عندما يلاحظُ الأهل ومديرو المدارس
بدأت الهام سند تشم رائحة الدخان العالقة على ملابس ابنها وهو في الثانية عشرة، قبل أن تضبطه وهو يدخن في مخزن المنزل. وتتابع: "حاولت نصحه ومنعه دون نتيجة، وعندما علم والده لم يبادر لمنعه؛ فزاد إقبالا عليه، وتعلقا به، حتى أصبح يدخن علنا أمام والده".
ويقول فتحي الطيراوي والد طفل آخر: "إذا علمت أن ابني يدخن فسأقدم له النصيحة أولا، وسأعمل على توعيته بمخاطر التدخين حتى يقتنع بالإقلاع عنه، ولو اضطررت لضربه فلن أسمح له بتدمير نفسه وصحته".
ويعتبر مدير إحدى المدارس الأساسية أن ظاهرة تدخين الأطفال محدودة عنده؛ لأن عدد طلاب المدرسة قليل، وهناك متابعة ومراقبة جيدة للأماكن غير المكشوفة من المدرسة. وينوه إلى أنه عقد عدة اجتماعات مع الأساتذة ليمتنعوا عن التدخين أمام الطلبة، وتحدث مع أصحاب الدكاكين ليتوقفوا عن بيع الدخان مفرقا للأطفال. ويقول: "لا يمكن الحد من هذه الظاهرة إلا بإقناع الأطفال أن التدخين أمر خاطئ، وشعورهم بمدى خطورته على صحتهم". ويرى مدير مدرسة ثانوية أن هذه الظاهرة تزداد بنسبة أكبر لدى طلبة الثانوية العامة؛ التوجيهي، لأهم "يعتبرون أن التدخين مظهر رجولة، ويثبت وجودهم"، وعندما تحدث مع أهالي الطلاب وجد اهتماما من بعضهم، وإهمالا وعدم متابعة من بعضهم الآخر.
رأي متخصص
وترى مرح عقيل؛ أخصائية التغذية في جامعة بيرزيت، أن تدخين أطفال لم يكملوا عامهم الثامن عشر، وبالتالي لم يكتمل نضوجهم ونموهم بعد، يؤثر على كمية الغذاء التي يتناولونها لتصبح أقل، مما يؤثر على نموهم، وتقول: "يكون الجسم في هذه الفترة على استعداد لزيادة الوزن والطول، وإقبال على الأغذية غير المفيدة، بحيث يكون الاهتمام بالصحة خارج إطار اهتمامهم، فهدفهم هو أخذ السيجارة التي يعتبرون أنها تفرغ الضغط النفسي عنهم، رغم وجود بدائل صحية عديدة لذلك، منها ممارسة الرياضة". والأهم من ذلك أن للتدخين مضار كبيرة وكثيرة، أهمها تلف في الرئتين، وضيق في النفس، وإتلاف للأسنان...
رد زارة الصحة
ويعترف محمد ياسين؛ مأمور الضبط القضائي في وزارة الصحة، أن الوزارة لا يمكنها القيام بشيء دون أن تتلقى شكاوى، ويقول: "المواطن هو الأساس في الرقابة، وفي حال تلقينا أي شكوى يمكننا أن نتوجه لأصحاب المحال التجارية ونفتشها". ويشير إلى أنه في محافظة رام الله والبيرة يمنع وضع أي دعاية للتدخين، أو وضع الأراجيل أمام المقاهي، ويتابع: "حتى اليوم تم تحويل أصحاب خمسة مقاه للنيابة العامة، ولكن على مستوى القرى والمخيمات، فلا يمكن مراقبة 80 قرية حول رام الله والبيرة". ويعتبر أن 90% من نجاح الرقابة تكمن في شكاوى المواطنين، و"لكننا حتى اليوم لم نتلق أي شكوى حول بيع سجائر للأطفال دون سن 18 عاما".
نص القانون
ويوضح ياسين أن المادة "5" من قانون مكافحة التدخين رقم "25" لسنة 2005، الصادر عن المجلس التشريعي، تنص على حظر التدخين في ساحات المدرسة ورياض الأطفال. والمادة "6" من نفس القانون تنص على منع بيع أو توزيع أو عرض أو الإعلان عن التبغ للأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة. وبناء على ذلك فإن كل من يخالف أحكام المادة "5" من هذا القانون يعاقب بالحبس لمدة لا تزيد على أسبوع، وغرامة لا تقل عن عشرين دينارا، ولا تزيد عن مائة أو ما يعادلها بالعملة المتداولة قانونا، أو بإحدى هاتين العقوبتين.
ويعاقب كل من يخالف أحكام المادة "6" من هذا القانون بالحبس مدة لا تزيد عن سنة، وبغرامة لا تقل عن مائتي دينار، ولا تزيد عن ألف دينار، أو بما يعادلها بالعملة المتداولة قانونا، أو بإحدى هاتين العقوبتين.
لقد بات جني أرباح خيالية الهم الوحيد لكثير من أصحاب المحال التجارية والدكاكين، في غياب الرقيب والحسيب للحد من تفشي هذه الظاهرة، التي باتت تهدد بضياع أجيال من الأطفال، لم تنل فرصتها من الحياة بعد!