رغد سمحان/بيرزيت
يحتفل الشعب الفلسطيني في الرابع عشر من كانون الأول من كل عام بيوم المعلم الفلسطيني، وقد استوقفتني هذه المناسبة للكتابة عن أستاذ ترك أثرا كبيرا في حياتي وما زالت كلماته ترن في أذني، درست مع الدكتور محمود العطشان مساقاً واحداً كنت أراه على مدار الفصل ثلاث مرات أسبوعياً ولم أتوقف عن التفكير به مرة واحدة، وبعد كل محاضرة كنت أخرج بعبرة وتأثر كبيرين بشخصيته، ففقدانه لبصره لم يفقده الإرادة والعزيمة لتحدي مصاعب ومعيقات الحياة. صدق الله العظيم حينما قال "وما تعمى الأبصار لكن تعمى القلوب في الصدور".
نكبة ولدت معجزة
ولد الدكتور محمود العطشان ضريرا عام1948 في قرية الحديثة قضاء مدينة الرملة، ولا يزال يروي حكايات والده وأعمامه الذين هجّروا من قريتهم حين حملوه رضيعا لا يتجاوزعمره الشهرين، وفروا به من بين القذائف والقنابل التي انهمرت على القرية عام النكبة، حيث لجأت عائلته لقرية مخماس، أما الآن فيسكن العطشان في مدينة البيرة.
الإهتداء بنورالعلم
تلقى الدكتور محمود تعليمه الأساسي في المدرسة العلائية لتعليم المكفوفين بمدينة رام الله، وكان فراق أهله أمراً صعباً عليه كونها مدرسة داخلية لكنه احتمل الأمر وتأقلم معه، ثم أكمل تعليمه الإعدادي والثانوي وبعد عام 1967 سافر إلى الإردن لدراسة الثانوية العامة وأمضى وقته خلال هذه المرحلة عند أقاربه، واجتاز الإمتحانات بنجاح ليلتحق بعد ذلك بالجامعة الأردنية.
يصف الدكتور محمود العطشان المرحلة الجامعية قائلا: "مشاعر مختلطة بين الحماس والخوف انتابتني حين ذهبت إلى الجامعة؛ فالحماس لكونها مرحلة عمرية جديدة ومهمه أقترب فيها من حلمي رويداً رويدا،ً أما الخوف فسببه شعوري بالوحدة حيث لم يكن لدي أصدقاء ومعارف لكنني تجاوزت الخوف والقلق وانشغلت بتحقيق حلمي".
وبعدها سافر إلى مصر طلباً للعلم حيث أنهى رسالة الماجستير والدكتوراه من جامعة عين شمس في القاهرة، ليحصد ثمار جهده ويبدأ المرحلة العملية بالعمل في قسم اللغة العربية بجامعة بيرزيت منذ العام 1981 فقد علّم اللغة والبلاغة والأدب الحديث لثلة من الطلبة الذين يشهدون له بعطائه وتفانيه في عمله.
جنى يوسف طالبة تعلمت على يد الدكتور محمود العطشان مادة أدب الأطفال وبهذه الكلمات وصفته: "شخصيته مرحة تبعث الفرح للقلب فينجذب العقل لما يقول، فقدانه لبصره لم يفقده القدرة على شرح المادة المطلوبة منه بمهارة من خلال استخدامه أساليب متنوعة لإيصال المعلومة لأذهان الطلبة بسلاسة".
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر
الوصول إلى الحلم لم يكن امراً سهلاً فلا بد من وجود تحديات في حياة كل شخص فماذا لو كان هذا الشخص ضريرا!، واجه الدكتور العطشان خلال دراسته الجامعية مشكلة كبيرة حيث أجهزة الحاسوب لم تكن موجودة بعد، والكتب الطبوعة بلغة بريل كانت قليلة جداً وباهظة الثمن، إضافة للجهد الكبير الذي كان يبذله لإنجاز أبحاثه؛ إذ كان يقضي من سبع إلى ثمان ساعات في المكتبة للتأكد من مراجع الأبحاث فقط. كذلك مشكلة صعوبة التنقل والحركة في المواصلات التي لم تكن متوفرة كثيرا حينها، إلى جانب الأعباء المادية حيث كان يدفع مبالغ كبيرة لمن يقرأون له الأبحاث وبعض الكتب غير المطبوعة بلغة بريل.
الموسيقى عالم مبصر
ما لاحظته خلال حديثي مع الأستاذ محمود العطشان هو شغفه وحبه العظيم للموسيقى التي تعلمها المرحلة الإبتدائية من أستاذه محمد أبو خاطر الذي كان يطرب لسماع صوته وينهل من علمه. كما تعلم العزف على الآلات الموسيقية الغربية كالموليديكا والهارموني وأتقن العزف على البيانو أيضا، وهوبالأساس ذو صوت شجي جميل ورثه عن أبيه الذي كان يرتل القرآن ويدندن المواويل على مسمع طفله الكفيف، لذلك كان يطمح أن يتخصص في الموسيقى لكن طبيعة المجتمع المحافظ حينها حالت دون ذلك، كما يضفي حضور العود أجواءً مبهجة على العديد من محاضرته خاصة عندما يريد أن يعلم طلابه مادة العروض والتفعيلات.
يرى بقلبه لا بعينه
اليد السليمة لا تكون طليقة دائماً، والعين المبصرة لا تبصر الحياة على حقيقتها وتتجول في تفاصيلها على الدوام، كثيرون لا يفرقون بين أجراس المحبة التي تقرع للصلاة والسلام وبين هدير مدافع الرعب والإرهاب والعنف والترويع، فالإعاقة هي إعاقة الروح والعقل وليس الجسد.
تنطبق هذه المقولة العالمية على الدكتور محمود العطشان الذي تحدى إعاقته بالإرادة والأمل وحقق ما لم يحققه المبصرين ليصبح المعلم الملهم لأجيال من الشباب.
- الصورة من الإنترنت