الريماوي.. صراع مع سرطان بين سندان الاحتلال ومطرقة المعابر العربية

2016-09-08 08:04:53

علاء الريماوي/ رام الله

في ليلة من ليالي شتاء 2010 الباردة، وبعد أن طغى الظلام على ملامح الحياة، وفي اللحظة التي عم فيه الهدوء منزل "أبو غسان" الكائن في بيت ريما، إذ بالقنابل الصوتية وقنابل الغاز المسيل للدموع تصدح في المكان قرب منزله؛ لتخبرنا بأن الهدوء عادة ما يسبق العاصفة. استيقظ كل من في المنزل وقلوبهم تخفق خوفا مما حدث، وخرج "أبو غسان" بعد أن سمع صوتا جوار المنزل لم يكن قادرا على تمييزه، فإذا بصوت عال يصرخ: "إنت اطلع".

لقد كانت قوات الاحتلال تطوق منزله من جميع الجهات، وقاموا بتفتيشه، وأمروا كل من في البيت أن يخرجوا؛ فخرج الجميع، وبعدها قالوا لغسان: "إنت تعال"، وأخرجوه من ساحة البيت إلى الشارع المظلم في برد الشتاء القارص، ثم قاموا بتفتيشه؛ فوقعت مشادة بينه وبين أحد الجنود الذي كان يستفزه، فدفعه غسان بقوة، وإذا به ملقى على الأرض، فانهال بقية الجنود ضربا عليه لمدة ساعتين، ثم طلبوا من أهله أن يدخوا إلى المنزل، ثم عادوا وطرقوا باب البيت، فخرج لهم أبو غسان، ليرى أعراض الضرب والبرد على جسد ابنه، قبل أن يعتقلوه ويقتادوه إلى المسكوبية في القدس المحتلة.

فرحة لم تكتمل!

تتجدد معاناة الشاب غسان الريماوي، 27 عاما، الذي كان قد اعتقل أكثر من مرة، أولها في عمر 12، والمرة الثانية كانت عام 2005، بسبب انتمائه للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وإلقائه الحجارة على قوات الاحتلال الصهيوني. وكان هذه المرة ثالث اعتقال يتعرض له، لتتجدد بالنسبة له حياة البؤس والظلم خلف جدران السجن، ويمنع من ضوء الشمس مجددا، وقد أمضى غسان شهرا في تحقيق "المسكوبية" التي تفتقر لأدنى مقومات الحياة والإنسانية.

وبعد تأجيل محكمته أكثر من مرة، قال المحامي عباس الريماوي لأبي غسان: "إذا دفعت كفالة قيمتها 2000 شيقل سيحكمون عليه لسبعة أشهر وسيخرج بعدها. وعندما شاهد أبوغسان ابنه في المحكمة قال وعيناه تجتاحها الدموع: "نظرت إلى غسان، كان وجهه أبيض وغير طبيعي، لدي شعور بأنه مريض". وبعد مضايقات تعرض لها أبو غسان في المحكمة، دفعت ابنته الكفالة ليخرج غسان في اليوم التالي.

وهنا بدأت صدمة العائلة؛ لقد أفرج عن غسان، ولكنه لم يعد لسابق عهده، اغيرت حركته، وبدا عليه التعب والإرهاق، دون أن يشعر بالألم، واختلطت مشاعر الفرح بالحزن، أيفرح أهله بالإفراج عنه، أم يحزنون لما آل إليه وضعه؟!

وحدة الدم أربعة

عرضت العائلة غسان على طبيب القرية، الذي قال لهم: "لم أحضرتموه إلي؟ خذوه إلى المشفى بسرعة"! ويقول أبو غسان: "نقلناه إلى مستشفى رام الله، وأجرى له الأطباء فحص دم كانت نتيجته أن دمه "4 وحدات". وتعجب الأطباء من حالة غسان؛ فالنتيجة نفسها حتى بعد أن أعادوا الفحص ثلاث مرات، وكيف له أن يبقى على قيد الحياة!

وبدأ غسان علاجه في مستشفى رام الله، وأشرف على حالته عدد من الأطباء الذين تساءلوا عن سبب إصابته الخطيرة! سألت أم غسان الأطباء عن صحة ابنها ليطمئن قلبها، فرد عليها الطبيب: "هذا الاحتلال، وهذه سياسته؛ لا نعلم إن قاموا بفعل شيء ما لغسان أو إن حقنوه بشيء"، فغرقت في بحر دموعها.

واستدعت حالة غسان نقله إلى مستشفى بيت جالا، ومن بيت جالا حصل على تحويلة للعلاج في مستشفى الأمل في عمان، حيث أجرى عملية زرع نخاع تبرع له به أخوه محمـد، فعاد إلى بيته في بيت ريما، وبدأ يشعر بتحسن، ولكنه لم يجر مراجعة للمشفى؛ بسبب انتهاء صلاحية التحويلة التي منحتها له وزارة الصحة، حيث وضع العائلة المادي لا يحتمل أن يقوموا بعلاجه على حسابهم الشخصي. ورغم معرفة غسان بخطورة مرض "سرطان الدم"، إلا أنه كان يخفي على أهله أن صحته تتدهور، حيث يقول أبو غسان: "كانت معنوياته عالية جدا، وقوة معنوياته هي التي ساعدت على تحسنه".

عودة السرطان .. والتخاذل العربي

وبعد فترة عاد هذا المرض إلى جسد غسان، ولكن بشكل مختلف، حيث أصيب بسرطان الغدد الليمفاوية، أدى إلى استئصال إحدى خصيتيه، لتتجدد معاناة العلاج من جديد، والبحث عن مكان للعلاج المجاني، وبعد خطوات قام بها غسان على حسابه الشخصي على فيس بوك، دعا أن يقف الناس معه في محنته، والضغط على السلطة من أجل منحه تحويلة، حصل على تحويلة إلى مستشفى "المطلع"، ولكن سلطات الاحتلال تأبى إلا أن تمنحه التصريح لأسباب أمنية.

ولكن ذلك لم يثن عزيمة غسان الذي دخل إلى القدس بشكل غير قانوني، ليفاجأ برد الأطباء في "المطلع": "ليس لدينا طبيب يشرف على حالتك الصحية". وتحول إلى مستشفى بنابلس، فلم يجد علاجا، وحالته تسوء يوما بعد يوم، إلى أن تمثل الحل بتحويله إلى مستشفى "هداسا"؛ ليرفض أمنيا، ولا يتدخل أحد من أجل رفع معاناته، ليقرر السفر إلى الأردن، بعد أن حصل على تحويلة من وزارة الصحة لعله يجد العلاج في مصر.

ومن الأردن، سافر غسان إلى مصر، وفي مطار القاهرة، رفض رجال الأمن المصري إدخاله لأسباب أمنية، وقالوا له: "أنت ممنوع من دخول مصر لأسباب أمنية بأوامر عليا", كانت هذه النتيجة التي تم التوصل إليها بعد تحقيق معه امتد ثماني ساعات متواصلة.

يقول أبو غسان: "ثماني ساعات وهم يدورون فيه، وهو غير قادر على المشي، لقد أذلوه جدا"! وبعد كل هذا الإرهاق، أعادوه إلى الأردن.

وبعد أسبوع تم التنسيق له ليتوجه |إلى مصر من جديد؛ ففيها أمله الأخير في العلاج. ولكن غسان رفض السفر إليها مرة أخرى، وقال لوالده: "لو رأيت ما فعلوا بي في مطار القاهرة فستقول لي لا تذهب".

اللقاء الأخير

تحدى غسان الكثير من العقبات والصعوبات في رحلة علاجه، وسوء المعاملة في عدة مستشفيات داخلية وخارجية. ولكن المفاجأة الكبرى تمثلت باعتقال سلاطات الاحتلال له من سيارة الأجرة التي كانت تقله من رام الله إلى قريته، بعد أن اعتقلت شقيقه محمد قبله بدقائق قرب مستوطنة حلميش، واقتحام منزل العائلة وتفتيشه عام 2015؛ ليكون هذا هو اللقاء هو الأخير بين محمد وغسان، الذي أطلقوا سراحه بسبب سوء وضعه الصحي. ثم يعودون لاقتحام المنزل مرة أخرى، والتحقيق مع غسان لمدة ساعتين، أنهاها ضابط التحقيق بقوله لأبي غسان: "ابنك مش رح يتعالج في أي مستشفى ولا رح تستقبله أي دولة ثانية".

ثم اقتادوه وشبحوه لساعات طويلة على عامود قرب برج مستوطنة حلميش العسكري، بعد تعريته من قميصه ومعطفه في البرد القارص، ولم يتركوه إلا حين شعروا أنه سيفارق الحياة، ليعود إلى منزله لا يقوى على رفع يديه ولا على الكلام.

لحظة الوداع الأخيرة

تقول أمه: "في أيامه الأخيرة وهو في مستشفى الأمل، اتصل بي عمه، وقال لي سافري إلى الأردن؛ فغسان يريد أن يراك. ثم اتصل غسان نفسه وقال لي: أين وصلتم يا أمي؟ أمي أحضري معك "سمّون"، وهو لقب يطلقه على ابن أخته".

لكن "سمون" لم يسافر معها، وبعد أن وافق الطبيب على طلبها الدخول والجلوس قرب سريره، أمسك يديها، وقبلهما. تقول أم غسان: خرجت من الغرفة لوقت قصير، وحين عدت كان الأطباء يجتمعون حوله، قبل أن يقوم أحدم بتغطية وجهه، فعلمت أنه فارق الحياة.

اخترنا لكم
عماد ابو الفتوح عندما عرفت أن الرواية القا...
سلمى أمين هل تمنّيت يومًا أن تتحدّث أكثر م...
 هند الجندي ينظر معظم الناس للأذكياء...
لينا العطّار/  اخترنا لكم من اراجيك...
بقلم: تركي المالكي الحياة مليئة بالجمال وا...
اخترنا لكم هدى قضاض- اراجيك  يعد ا...
منوعات
نغم كراجه/غزة يواجه الشباب صعوبة في إيجاد...
رغد السقا/غزة يمر ذوي الإعاقة بظروف نفسية...
سها سكر/غزة "لا تحسَبِ المجدَ تمرًا أ...
نغم كراجة/غزة "أمي لم تفِ بوعدها، أخب...
إسراء صلاح/غزة هنا غزة المدينة المنكوب...
عرين سنقرط/القدس ربما قطار الفرح في مدينتي...