"دعوني أزر قبر اخي"

2016-04-07 20:59:10

محمود عدامة/ القدس

كان ذلك اليوم مأساويا بكل معنى الكلمة على هذه العائلة، حين استيقظت القدس وأهل فلسطين على أخبار حزينة، ففي تمام الساعة السابعة والنصف من مساء يوم 8\5\1972، كان الجميع يراقبون الأخبار بشكل هستيري، ويحاولون فهم ما سيحصل. وفجأة صرخ الجميع:"عملية عملية".

كان الخاطف قد ودع زوجته وابنته التي تبلغ من العمر ست سنوات، وقبلها، وقال لها:"بحبك يابا بحبك.. اتذكريني". وكانت دموع زوجته تسيل على خديها فيمسحها قائلا:"اطمئني؛ سأظل معك إلى الأبد حتى وإن استشهدت". لقد أخبر زوجته بالعملية التي سيقوم بها، ولكنه لم يخبر العائلة، وخرج ولم يعد. توجه إلى المطار، دخله، وصعد إلى طائرة "سابينا" القادمة من بروكسل، واستولى عليها مع رفاقه، ليبادل ركابها بأسرى في سجون الاحتلال.

كان شابا في ريعان شبابه، وهب روحه لفلسطين، وترك وراءه إرثا تاريخيا كبيرا تفخر به العائلة والشعب الحافل بقصص النضال والتضحية، وقد سمعت العائلة عن ذلك الشاب الجريء دون أن تعلم انه ابنها علي طه، وكان الجميع يتابع الأخبار، وحين نشرت إسرائيل تفاصيل العملية، قال أخو الشهيد:"شفت علي على التلفزيون، بس مش واضحة الصورة".

ولحظة استقرار الطائرة على أحد مدارج المطار، أبلغ قائد المجموعة برج المطار باستيلاء مجموعة من   منظمة أيلول الأسود على الطائرة، وأبلغ البرج كذلك بطلب المنظمة إطلاق سراح مئة فدائي أسير خلال عشر ساعات، وإلا ستقوم المجموعة بتفجير الطائرة بركابها، وتم إبلاغ البرج بأسماء المطلوب إطلاق سراحهم.

قبل انتهاء مهلة الإنذار بقليل، حضر إلى المطار مندوب الصليب الأحمر الفلسطيني وطلب تمديد مهلة الإنذار، وأعلن عن استعداد الصليب الأحمر التوسط لدى سلطات الاحتلال لتنفيذ شروط المنظمة، ولكنه لم يكن يدرك الخدعة، حيث كان هذا المندوب من جنود الاحتلال.

وحين تم إخبارهم أن الأسرى باتوا على مدرج المطار، نزل علي ورفيقته تريز لتفقدهم، ولكنهم لم يقتربوا، فتقدما نحوهم، وكان علي أول من اكتشف الخدعة، فجاءته الرصاصة مسرعة وسط جبينه. أمسكت به تريز وصرخت:"علي... علي"! لكنه كان قد استشهد، وجاءت طلقة أخرى أصابت تريز إصابة بالغة، وهرعت سيارات الإسعاف إلى المكان، وأغلقت الطرق، وأخلي المطار، وأخذ جثمان علي واحتجز، وأسعفت تريز واعتقلت، ووصل خبر استشهاد علي إلى العائلة في تلك اللحظة، فكان أصعب يوم في حياة أبنائها؛ الجميع يبكي ويصرخ، ولا يمكن وصف هذا المشهد.

وبعد ثلاث سنوات على احتجاز جثمان علي، توجهت أخته سهيلة طه إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر العالمي، وإلى سلطات الاحتلال، بطلب السماح لها برؤية أخيها أو قبره. ولما لم يجد ذلك نفعا، توجهت إلى المحامية فليتسيا لانغر؛ التي اشتهرت بالدفاع عن حقوق الفلسطينيين وقضايا الأسرى، فترافعت أمام السلطات المختصة تطالب بالسماح لأخت الشهيد بالحداد على موت أخيها على قبره، فجاء الجواب:"علي المذكور مقبور في مقبرة إسلامية بحوزة الجيش الإسرائيلي، وحسب أنظمة الجيش يمكن إخراج الجثة من القبر بعد سنة من يوم دفنها". ولكن سهيلة لم تكتف بهذه الإجابة، فطلبت بوساطة موكلتها أن تزور قبر أخيها حتى وإن كان بحوزة الجيش الإسرائيلي لتندبه، ولم يرد أي جواب على طلب سهيلة، وهي تقول:"دعوني أزر قبر أخي".

كانت العلاقة بين علي وسهيلة مميزة جدا، فهي أخته الكبرى، حيث تقول: "نار الأخ ما بتنطفي إلا إذا شفتو مدفون ومرتاح؛ فقد كتب في وصيته أنه يريد أن يدفن في القدس، وهو المكان الذي ترعرع فيه، وكان الترجمان السياحي الوحيد فيها. ولكن اليهود لم يوافقوا على دفنه فيها خوف من أن يتحول قبره إلى مزار، ولم يعطونا أي خيارات، وظل جثمان علي محتجزا لثلاث سنوات".

هذه الفترة زادت سهيلة إصرارا على معرفة مصير جثمان أخيها، وكلما زارت شخصية سياسية البلد كانت تتوجه إليها لتطالب بدفن علي. وذات يوم كانت تستمع للأخبار وهي "تعجن"؛ فسمعت أن هنري كيسنجر؛ وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك، موجود في البلد، فتركت العجين لتتمه زوجة ابنها، وخرجت مسرعة، وتوجهت من مكان لمكان وهي تحاول أن تصل إليه، وقابلها الجميع بالسخرية، حتى وصلت إلى صحيفة "الشعب"؛ التي كانت تصدر في القدس آنذاك، وسألتهم عن كيسنجر، ولكنها في النهاية لم تستطع الوصول إليه. وفي اليوم الثاني زادت إصرارا وقوة، وتوجهت إلى القنصلية الأمريكية، وسألت عن كيسنجر، فأجابتها امرأة أنه ليس موجودا هنا، فتوجهت إلى شاب كان يجلس على الكاونتر، وقالت له:"يا ابني أنا جاي أشوف كيسنجر". فقامت امرأة وفتحت الباب، وعندها رأت سهيلة كيسنجر يقطع "الكوريدور"، فنادت بصوت عال:"كيسنجر... كيسنجر"! وكاد يغمى على السيدة الواقفة عند الباب دهشة من هذه الجرأة، وبالفعل تحدثت مع كيسنجر دون أي توقعات، وأخبرته قصتها... وهكذا تمكنت من استرجاع جثمان أخيها الشهيد علي ودفنه.

اخترنا لكم
عماد ابو الفتوح عندما عرفت أن الرواية القا...
سلمى أمين هل تمنّيت يومًا أن تتحدّث أكثر م...
 هند الجندي ينظر معظم الناس للأذكياء...
لينا العطّار/  اخترنا لكم من اراجيك...
بقلم: تركي المالكي الحياة مليئة بالجمال وا...
اخترنا لكم هدى قضاض- اراجيك  يعد ا...
منوعات
نغم كراجه/غزة يواجه الشباب صعوبة في إيجاد...
رغد السقا/غزة يمر ذوي الإعاقة بظروف نفسية...
سها سكر/غزة "لا تحسَبِ المجدَ تمرًا أ...
نغم كراجة/غزة "أمي لم تفِ بوعدها، أخب...
إسراء صلاح/غزة هنا غزة المدينة المنكوب...
عرين سنقرط/القدس ربما قطار الفرح في مدينتي...