أحلام العجلة ورحاب دلول/ غزة
قد تكون أسطح الكرميد وحياة اللاجئين بما تحمله معاناتهم في المخيم خيالا يرتسم على لوحة تجسد واقعا ما حوله. هنا بدأ الفنان محمد الغف، 70 عاما، حديثه ليقول: "إيه يا ولاد مين بحب الرسم"؟ فأجبت بصوت عال: "أنا يا أستاذ"، فأمسك بحقيبتي وفتحها، وأخذ ينظر إلى حال كتبي وهو يردد: "إيه دا؟ كل كتبك رسم! دا انتا بتحب الرسم كتير يبني"!
بداية فنان
وكان الغف في قمة سعادته وهو يتحدث عن بداياته فيقول: "كانت لعمي ميول نحو الفن والرسم، وكان عندما يعود من مدرسته يتناول الغداء، ثم يبدأ بالرسم، فأجلس بجواره لأشاهد ما يرسم، حينها لاحظ مدى حبي للرسم، فأعطاني مجموعة من الألوان والأوراق، وشجعني على الرسم"، ويضيف: "صرت أشتري الألوان من مصروفي المدرسي، وأرسم".
ويشير الغف إلى أن أجمل لحظات حياته سجلها في أولى لوحاته التي رسمها في المرحلة الإعدادية، وكانت عن نكبة 48، وحياة اللاجئين ومعاناتهم خلال الهجرة والحروب التي مرت بالشعب، وكان لها أثر عميق على نفسه.
ثم التحق بمعهد لدراسة التربية الفنية، وتعملق خلال دراسته في رسم الأماكن الأثرية بقطاع غزة، وخاصة كنيسة الروم، وجامع كاتب ولاية، حيث يقول: "كنت حينذاك أول من رسمهما وصورهما بطريقة جميلة".
ويضيف: "منذ رسمت تلك اللوحات، بدأت بداية مشرقة تمكنت خلالها من إيصال فني للمجتمع. وبعد كل هذه السنوات ما تزال آثار هذه اللوحات كبيرة في نفسي".
المعارض الخاصة
ويوضح الغف أنه شارك في العديد من المعارض، بلوحات ترسم اختلافاتها قصصها التي تحتمها طبيعة المعارض المختلفة، ولكن ما يجمع بينها كلها أن الفنان كان ينتقيها بعناية لإيصال صورة غزة، وزمانها الجميل للجيل الجديد، الذي يفتقده، وبعد طمس كثير من معالمها الأثرية.
وينوه إلى أن لوحاته عرضت في معارض "غزة القديمة" الشخصي، والهلال الأحمر، وجمعية الشبان المسيحية، ووزارة الثقافة "غزة تواصل"، والجامعة الإسلامية.
ويأسف لرفضه في قبول دعوات للمشاركة في معارض أخرى حيث يقول: "للأسف الشديد لم أجد التشجيع والانتماء للفن المقدم؛ فبعضهم يأتي ليلتقط الصور إلى جانب الرسومات، أو لمشاهدتها فقط، ونادرا من يأتي ليتعرف على تاريخ لوحة أو الاستفادة منها".
ويعتبر أن فن الحرق على الخشب، الذي اختاره لغرابته، جميل يقبل عليه الناس، حيث يوضح أن الحرق على الخشب من أقسام الرسم التي تحتاج إلى الإبداع والتركيز العالي، لأنه يعتمد على الظل والنور، ودرجات اللون الفاتح والغامق، إضافة إلى الشكل والخط لإخراج عمل فني متميز.
معاناة
ويبين الغف أن المعاناة التي يعانيها توحدت بين الماضي والحاضر، مع اختلاف الزمن، وكان أكبرها الميزانية، حيث اعتمد على نفسه في توفير إمكانيات الرسم من الألوان المائية "الغواش"، والألوان الزيتية، وأحيانا كان يشترك مع صديق له في شراء مواد الرسم، وحتى حين أصبح موظفا، أخذ يوفر المواد من معاشه. ويقول: "لم أجد آذانا صاغية تحضن المواهب وتتبناها، فبدأت أعمل على 70 لوحة توثق ليافا وتنقل جمالها أو تراثها، عن طريق صور وردتني من الأهالي المقيمين فيها. ولكني لم أتمكن من إتمام أول لوحة؛ لعدم توفر الإمكانيات"، ويتابع: "لكن رغم ذلك يمكن للعقول أن تنتج وتبدع، ولا شيء يقف أمام الإرادة".
ويدعو الغف الأهالي والمسؤولين والمدرسين إلى الاهتمام بهذه الأجيال عبر غرس مفاهيم الفنون وحبها في قلوبهم، ليتعلموا رسم جمال الطبيعة والإنسان والحيوان، فلا حدود للجمال... ولا ننسى أن المصور والبديع من أسماء الله الحسنى، وأن موهبة الفن تقتصر على فئة معينة لحكمة لا يعلمها إلا الله". كما يتمنى أن يولي المسؤولون عن الثقافة في الوطن اهتماما بالفنون الراقية كلها، سواء في الموسيقى والحركة، والتشكيلية والأدبية والشعر، التي تدعم القضية الوطنية، وتنشئ جيلا وطنيا قادرا على إيصال رسالته، فيرتقي المجتمع بثقافته.