أإلى هذا الحد أنا قبيح؟!

2016-06-26 07:03:44

ناريمان شوخة/ رام الله

قال: لا...

حرفان، لكنهما قادران على انتشالك من بحر أحلامك أو تحطيم بيت آمالك، أو إلغاء فكرة، لربما ستكون مفيدة يوما.

كررها مجددا بنبرة عالية يغلب عليها طابع القسوة والخشونة: "لاااا".

لم أتفوه بأي كلمة، بقيت صامتة أراقب تجاعيد وجهه التي أصبحت واضحة برفضه القاطع، ملامحه كانت مخيفة. حاجبان معقودان وعينان ضيقتان وشفتان متراصتان بإحكام، ولحية بيضاء باردة كثيفة.

لما هذا الرفض يا أبي؟ لماذا تصر على إنهاء الموضوع بكلمة "لا"؟

أجاب بقوة مندفعة: "فقط لأنه من المخيم"!

كالرصاصة اخترقت أحشاء جسدي، تمنيت أن أسمع أي مبرر إلا هذا المبرر. وفي لحظة لم أدر ماذا أصابني سوى أن ذاكرتي أمسكت بيدي لتعيدني إلى ذاك اليوم لعلي أتذكر ما هو المخيم بعين أبي، هل هو قبيح لهذا الحد الذي جعله يبدو فيه مخيفا؟

مدت أشعة الشمس الساطعة خيوطها الذهبية في ذلك اليوم، كانت الحرارة خانقة ولا نسمة في الهواء، وضيق المكان جعله يخلو من التهوية، لكن رغم هذا الجو القائظ لم تتوقف حركة أهالي المخيم.

شهيق زفير.. زفير شهيق: "امش يلا بسرعة، أمي قالتلي إذا بتروح وما معك العدس ما بتدخل ع الدار". ويرد عليه الآخر: "إن شاء الله نلحق الدور".

"ماذا يحدث هنا، لماذا هم يتسارعون"؟ سألت أحدهم

قال لي: "انظري هناك".

سيارة بيضاء تحمل على أكتافها حرفين: "UN"، التي تعني الأونروا اختصارا لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، تحمل مواد غذائية وتقدم المؤن لهم؛ كالفاصولياء، والعدس، والسكر، والطحين، والزيت. وتأتي كل ثلاثة أشهر مرة. والوكالة هي التي تستأجر أرض المخيم من الدول المضيفة، واستبدلت بالخيام وحدات سكنية مبنية من الطوب وألواح الزينكو.

بدأت أمشي بخطوات مترنحة على شوارع ترابية غير ممهدة، وعلى مساحات بدأت تضيق بي أكثر فأكثر، لأجد نفسي في أزقة المخيم بين وحدات سكنية متراصة لا يفصل الجار عن جاره إلا متر واحد أو أقل.

وعلى عتبة بيت وجدنا عجوزا تجلس وهي تسبح لله، وتدعو لحفيدها محمود بالفرج العاجل، وهو الذي سجن قبل خمسة أعوام، قالت العجوز بصوت منهد: "هل سأراه قبل موتي"؟ ما لبثت حتى ركع أحمد على قدميه ليقبل يديها، وهمس بأنه سيخرج بإذن الله وسترينه.

رغم بساطة المكان وتخليه عن كل أشكال البهرجة إلا أنه يعم بالضوضاء، والأصوات تختلط فيه من أب يصرخ على أطفاله، وأم تلعن نفسها مرارا وتكرارا، وصوت رضيع يبكي من شدة الجوع، وأطفال يقهقهون وهم يلعبون "الدحادل". كلها أصوات تطرق مسامعي بحدة، وتخرجني بين والفينة والأخرى من تأملاتي الهادئة المطمئنة. أصوات  تجتمع لتشكل إيقاعا لرقصة مفعمة بالحركة تجعلك تمشي وأنت مترقب ومتحمس لمعرفة حكاية كل صوت.

أسرح بين الروائح والأصوات ووجوه الأطفال؛ طفل يمسك بيده سكينا بلاستيكية، وطفل آخر يحمل بندقية لعبة يحاول مهاجمته، والآخر يدافع عن نفسه بسكينه، إنهم يجيدون التمثيل ببراعة؛ فحياة المخيم، وظلم الاحتلال، سلبا منهم طفولتهم، وأصبحوا معتادين على هذه المشاهد.

وفي وسط المخيم تجد أمامك أشكالا هرمية مرصوفة بالحجارة الملساء في نسق بطيء وعتيق يحاكي نسق الحياة العامة للمخيم مدونا عليها أسماء الشهداء.

فجأة قال لنا أحدهم: "من بنى هذه الحجارة قرر أن يضع عليها أسماء شهداء المخيم، وكان اسمه أول اسم يسجل عليها". أكان يحس أن الشهادة تنتظره فأحب أن يكون اسمه خالدا؟ أيهمهم أن يعترف بهم أحد؟ وطالما قضيتهم عادلة، فإن حبهم للشهادة وللوطن كبير جدا.

حتى فتيات المخيم يصنعن من مواهبهن شيئا للوطن، فقد شكلن فرقة للدبكة الشعبية تحت عنوان "فرقة الناي". وأصررت على أحمد بأن يأخذني إلى "نادي الطفل الفلسطيني"؛ المكان الذي تقام فيه نشاطات المخيم لأرى دبكتهم بعد أن قال لي إن أهل المخيم أكثر ما يجيدونه الدبكة. فتح أحمد الباب بدفعة قوية فانتشرت كلمات أغنية:  يا زارعين السمسم .. يا زراعين السمسم

خلي السمسم على أمه .. خلي السمسم على أمه

واللي يهوى وما يوخذ .. واللي يهوى وما يوخذ

فبدأت اتفرس حركات الفتيات وخطواتهن المتناسقة وأنا مبتسمة، وأحمد بجانبي يردد كلمات الأغنية بحماس.

أجل؛ هن الأفضل؛ فهن يدبكن بشغف وحب وانتماء للوطن، وأروحهن نابضة بالحياة رغم بؤسها وقسوتها عليهن.

وبعد خروجنا لفت انتباهي ذاك الجدار المزين بكلمات الراحل محمود درويش: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، وتلك الأعلام الباسقة رغم اختلاف الأحزاب، يعلوها العلم الفلسطيني، فلا نزاع على رفعه.

المخيم هو الوطن بحد ذاته، وهو بوصلة القضية، وأبناؤه كاليد الواحدة المتماسكة إن بكت عين بكى كل المخيم معها، وإن ابتسم ثغر فرح المخيم كله.

إنهم لم يعرفوا معنى الوطن إلا بمخيمهم يا أبي!

بخطوات عصبية ذهب أبي ولم ينس أن يغلق الباب بقوة.

اخترنا لكم
عماد ابو الفتوح عندما عرفت أن الرواية القا...
سلمى أمين هل تمنّيت يومًا أن تتحدّث أكثر م...
 هند الجندي ينظر معظم الناس للأذكياء...
لينا العطّار/  اخترنا لكم من اراجيك...
بقلم: تركي المالكي الحياة مليئة بالجمال وا...
اخترنا لكم هدى قضاض- اراجيك  يعد ا...
منوعات
نغم كراجه/غزة يواجه الشباب صعوبة في إيجاد...
رغد السقا/غزة يمر ذوي الإعاقة بظروف نفسية...
سها سكر/غزة "لا تحسَبِ المجدَ تمرًا أ...
نغم كراجة/غزة "أمي لم تفِ بوعدها، أخب...
إسراء صلاح/غزة هنا غزة المدينة المنكوب...
عرين سنقرط/القدس ربما قطار الفرح في مدينتي...