حمزة درويش/ رام الله
كعادتي بعد كل مطر غزير، أتسلل إلى أحضان الطبيعة لأتأمل صور التناقض بين الجمال والمأساة المحزنة.
نهضت من سريري بعد أن أنهيت عملي على جهاز الحاسوب، ثم انتعلت حذائي الشتوي، وخرجت إلى عين الماء الخاصة بعائلتي، التي تبعد بضعة أمتار عن منزلي أسفل الوادي. وما إن وصلت إلى الخلاء، حتى رأيت جدارا من الحجارة؛ سلسلة، جرفته مياه السماء، وجذع شجرة قد انكشفت جذوره بفعل المياه التي أدت إلى انجراف التربة، أيقنت حينها أنني على مقربة من رؤية صور التناقض في عالم الطبيعة؛ لأن هذه الصورة العنيفة أشعرتني بأول صور الألم التي حتما لا أبحث عنها.
استمررت نزولا حتى وصلت إلى صخرة بيضاء، جلست عليها لأستمتع بصوت خرير المياه في الصخر الممتزج بصوت الحسون، في ذات الوقت، سمعت صوت نوح الحمام الذي ذكرني بمشهد رأيته في زيارتي السابقة للمكان، ودفعني هذا الصوت للنزول إلى بركة الماء لأرى ما حصل في مكان العش الذي سقط فمات صغاره، ووجدت الأم تبني عشا جديدا في ذات المكان، لكنها طارت فورا عندما رأتني، أما أنا فقد فرحت بالأمل الذي تملكه هذه الأم الفاقد.
صور الجمال هذه لم تستمر في مسيرتي لهذا اليوم، فقررت العودة للمنزل، ولكن أثناء صعودي مرت عيني على الوادي الصخري أسفل المكان، كان بعيدا عني قليلا، فترددت في الذهاب إليه، ولكن في داخلي شيء يشدني نحوه؛ فهو جميل في هذا الوقت. ذهبت إليه وفي بالي دعوة ألا أرى تناقضا هناك، وفور وصولي كان صوت الماء الجاري أجمل من أي سيمفونية سمعتها، اقتربت منه أكثر وأكثر، حتى طغى صوت مؤلم على صوت الماء، كان أشبه بصراخ طفل أهلكه البكاء، لكنه لم يكن طفلا، فشعرت بالخوف، وتقدمت بحذر وخفة، حتى اقتربت كثيرا من مصدر الصوت خلف صخرة، فرأيت مشهدا أشعرني بالفرح لرؤية أمل آخر؛ كانت ظبية؛ أنثى الغزال، تجلس إلى جانب خشيش؛ غزال حديث الولادة. ولكن عندما اقتربت منها ولم تتحرك، أنزلت رأسها على جسد رضيعها؛ فاقتربت منها حتى تمكنت من لمسها، فآلمني ما رأيت؛ لم يكن صراخها من ألم الولادة، بل من ألم الفراق على خشيشها الذي مات بسبب البرد، وكانت أمه تحاول تدفئته بلسانها لعله يصحو.
في صوتها رأيت ألم العالم كله، وفي إصرارها رأيت قوة العالم كله، لم أكن أعلم ما قانون الطبيعة، لكنني أصبحت أعلم أن الحياة مزيج من الألم والحب، وينمو عليها الأمل والإصرار، ويتغنى فيها الضعيف، تلك الحمامة التي عادت تبني عشا علمتني أن الحياة مستمرة مهما فقدت، وأن الأمل هو وقود الحياة، وأنثى الغزال علمتني أن تحاول وأنت تتألم، وألا أيأس ما دام لدي عقل حي، ولن تموت إذا تألمت على ما كان حيا؛ فالمحاولة أساس الوجود، والنسيان نعمة للوصول الى إلراحة؛ فلا تلوموا من ينسى.