الرصاصة العنيدة التي أبت أن تسكن في يدي

2017-02-13 14:26:00

محمد أبو ربيع/ رام الله

لم تكن أمي قادرة على أن تشيح نظرها عن عيني المسعف، ومع ذلك فقد كانت تتابع الموقف عن كثب لتكتشف إن كان يرتدي عدسات لاصقة، أم إن هذا لون عينيه؛ هكذا، لا يستريح المرء عند النظر إليهما! تسللت نقطة عرق وحيدة من حاجب الممرض لتسكن على ساعته الفضية التي رسمت لي مشهدا تراجيديا بامتياز، فشعرت بعدم الارتياح آنذاك، وهذا كان متوقعا بالنسبة لي! وتساءلت عم سيعرب الممرضون؟ عن الأسف لعدم معرفتهم بحالتي؟ أم إن حياتي ستضيع كغبار؛ فأنا هنا في المشفى للمرة الأولى أبصر أمي وأخي ينصتان إلى هدوء الممرضين بجانب الغرفة، وكأن هذا المشهد قد شاهدته من قبل؛ لا أدري!

هنا بدأت أسمع عن تلك الرصاصة اللعينة التي خرجت من فوهة البندقية العنيدة لتصيبَ اليد اليمنى وتمزق أجزاء من العظام فيها. لم أكن الوحيد في ذلك المشفى؛ فقد كان يرافقني العديد من المصابين، وبعدها بدأ يكتظ المشفى حتى لم أعد أسمع إلا صوت الصراخ وصوت سيارات الإسعاف.

كنت أبحث عن هدوء في ظل زحام يضج ألم وصراخ،  حاولت طمأنة فضولي الخانق لمعرفة حالتي وطلب من جسدي أن يطمئن قليلا. قلت في نفسي مرة أخرى: "أليس غريبا أنني لا أهاب الشلل أو الموت"؟! ربما لأنني عرفت من تلك النظرة على وجه أخي وكانت تحمل شيئا، أنني ما زلت حيا، ويدي معطلة، ولكنها ستتحسن.

كان ثقل الكلمات يسحق إحساسي بالواقع، ويدي تهتز، وجسدي المهترئ بقي يسندها ليلا ونهارا. كان صعبا أن أبقى مستيقظا في ذلك الوقت المبكر، ولكن لازمتني عادة النهوض قبل بزوغ الشمس لأكثر من عشرة أيام.

الممرض الذي استهان بمهمته

وتملكني التفكير، هل من المنطق أن تنجز المهام الطبية ليلا دون إشعال الضوء في الغرف؟! فقد كنت في تيه من أمري عندما دخل إلى غرفتي طاقم من الممرضين كي يزرعوا تلك الإبرة اللعينة في يدي؛ ليمسك بألمي المفجع، ولكن لم يفلح، فهو زادها وجعا، عندما استهان بمهمته فأبقاني مستيقظا لمدة سبع ساعات، ناهيك عن الورم الذي أصاب ساقي الأيمن نتيجة تلك الإبرة. هنا بدأت أقرأ في عيونهم رسالة عدم اهتمام غريبا! ناهيك عن ضعف الإمكانيات في ذلك المشفى أصلا؛ فنومي لم يطل ليس لسبب جسدي فقط، لا؛ بل لكونهم قليلي الخبرة مع حالتي وغيرها... لقد كانت كل الظروف تشير إلى فشل هذه الخدمة الطبية في ذلك المشفى، وهذا ما جعل عائلتي تؤجل إجراء العملية لعدم وجود الثقة.

أمي وقلبها التائه في زحام المشاعر

أغلقت أمي عينيها، ولكنها لم تغلق فضولها المجنون، فبقيت حاضرة تلك الليلة، وأصبحت مفعما بالأمل فقط لقربها من سريري. ورغبتها النابعة من أعماقها تكفي لاستدعاء الدموع، لحظة ما تداعبني بالسحر الفاتن الذي يمكن أن يعيشه شاب في أول لوعة إعجاب بفتاة، ولحظة أخرى بعد ذلك تكسوني، بقسوة وعتاب بما فعلت! لم يكن مستشفى رام الله وغيره قادرا على إدخال الفرحة في غرفتي الحزينة سوى مهجتي؛ أمي، فالدواء مهما كان، ليس سائلا أو إبرة أو ما شابه، يكفيني أن أرى في جفون والدتي صورة تمزج بين حزن علي، وألم فراق لوالدي، عدا عن رسالة الشوق والحنين التي ستقولها لي والدتي في بيتنا.

لا أحب المشفى، كان الطقس حارا، وانتشرت في الجو رائحة البيض المسلوق، ورائحة البندورة، كانت هذه بالنسبة لي لحظات عصيبة شعرت كأنني سأختنق بسبب هذا الجو المضغوط، ومشاهدة المرضى بلباسهم الموحد يدخل هاجسا في نفسي؛ أينما نظرت أتخيل أن الهواء الذي أتنفسه مشبع بالفيروسات، كان همي الوحيد أن أخرج لأتنفس الهواء الطلق، لكن الظروف حتمت علي البقاء وكأنني استبدلت وجع يدي بهم نفسي جديد في تلك الليلة.

أشغل نفسي بسماع القرآن، وبعد أن أتعب أتوقف، تعاودني تلك الأفكار، ويلعب في عقلي إبليس، محاولا استرجاع شريط حياتي في لحظات كأنها تمر من أمامي، لم أتذكر سوى التفاصيل السيئة. أجبرت نفسي على استذكار ما هو إيجابي، لكن لم أفلح؛ وكأن حديث أخي الأكبر كان بمثابة منبه يعمل في كل ثانية عندما تغادر الحياة ست ساعات وتعود!

دخل اليوم السابع عشر من شهر حزيران تلك الغرفة بهدوء، وبعدها نطق الممرض بعملية ستجرى في الثامنة صباحا من اليوم التالي... وهنا بدأت اشعر أنني سأخرج عما قريب! ولم يبق لي شيء سوى الأمل ولقاء عائلتي من جديد؛ والكل ينظر إلي بحرقة هي أشد ألما من الإصابة نفسها... التهمت قطعة من المعجنات قدمتها لي أمي، وفي قلبي كلمة لم تخرج، احتفظت بها لحين خروجي من تلك الغرفة الهزيلة... أحاديث جانبية، آيات من القرآن تدور في ذهني، انتهى ذلك اليوم، وبعدها انقطع الاتصال مع حالتي لمدة استغرقت ست ساعات، وبعدها تستقبلني عائلتي بضحكات وكلام لا أذكر منه سوى: "اصحَ  اصحَ"!

قفشات من المرح

تبادلنا الكلام في أول دقيقة، وجاءت التهاني والتبريكات بنجاح العملية، وإزالة الرصاصة من يدي، وتبخر حلمي تحت وطأة الواقع الجديد، لم أستطع  التحرك من سريري لأرى أول مشهد بعد انقطاع دام سبعة عشر يوما، وعلى الرغم مما في القصص من ألم يفضحه الكاتب عبر قصصه، فلا يخلو هذا الألم من قفشات المرح والمزاح، فالنكات المتواضعة كانت حاضرة، والضحكات كانت سببا في طرد العديد من الأصدقاء من الغرفة. هكذا ودعت لحظاتي الأخيرة في تلك الغرفة الأليمة.

كان يروق لي النظر من تلك النافذة في كل ثانية، وكان يحلو لي أن أسترق النظر إلى تلك النافذة وما أحبه  أنها تكتب لي نصا يخبرني عما فات، فنظرة واحدة كفيلة لتريح القلب عموما.

اخترنا لكم
عماد ابو الفتوح عندما عرفت أن الرواية القا...
سلمى أمين هل تمنّيت يومًا أن تتحدّث أكثر م...
 هند الجندي ينظر معظم الناس للأذكياء...
لينا العطّار/  اخترنا لكم من اراجيك...
بقلم: تركي المالكي الحياة مليئة بالجمال وا...
اخترنا لكم هدى قضاض- اراجيك  يعد ا...
منوعات
نغم كراجه/غزة يواجه الشباب صعوبة في إيجاد...
رغد السقا/غزة يمر ذوي الإعاقة بظروف نفسية...
سها سكر/غزة "لا تحسَبِ المجدَ تمرًا أ...
نغم كراجة/غزة "أمي لم تفِ بوعدها، أخب...
إسراء صلاح/غزة هنا غزة المدينة المنكوب...
عرين سنقرط/القدس ربما قطار الفرح في مدينتي...