إسراء صلاح/غزة
هنا غزة المدينة المنكوبة التي لم تسترح بعد من ضرباتها القاتلة وحروبها الفتاكة التي جعلتنا بؤساء، لكنا كنا نواسي أنفسنا بأننا آمنين في سربنا ومعافين في أجسادنا، ودعنا ليالي رمضان واستقبلنا العيد بأوجاعنا التي لم تشف بعد، حِكنا فرحتنا بخيوط الأمل لنستقبل عيد الله في الأرض لكن عدوان الاحتلال الاسرائيلي سبق ومزق تلك الفرحة، فأصبحنا نستودع الله أنفسنا في كل ليلة، ونحتضن بعضنا كأننا سنذهب إلى مثوانا الأخير، نتأمل سقف البيت، ونتخيل هل الصاروخ سينفجر فينا أم أن السقف سيسقط على رؤوسنا، هل سنرى الموت وننجو أم أنه سيباغتنا، وما أن تبدأ لحظات الانفجار الجنونية، نأخذ وضعية الموت ونغمض حواسنا وننطق بالشهادة، لك أن تتخيل نفسك في مساحة متر مربع تحيطك النيران والألغام، لا تعلم كيف ستنجو، ولا تشك في حتمية الموت، كل ما ترجوه هو أن ينتهي كل شيء بسرعة دون ألم وجراح، تصرخ وتنادي "يارب" لكنك لا تسمع حتى صوتك، الانفجارات عمياء قوية.
وبعد لحظة من الهدوء التي تسود نحمد الله أننا نجونا بأنفسنا، أتأمل ذاتي وما حولي، وأسرع بإمساك هاتفي لمراسلة الأهل وأحمد الله وأبكي أنهم نجو أيضًا، وأتفقد الأصدقاء فيخبرني أحدهم أن له أصدقاء صعدوا للسماء، فأتراجع عن فرحتي بالنجاة وأقول في نفسي: الموت قريب، لن ننجو في كل مرة، فأتابع الأخبار وأرى المجازر الوحشية، البيوت التي أطبقها عديمو الانسانية على رؤوس ساكنيها، عائلات بأكملها تُمسح من السجل المدني، ومن بين الأنقاض يخرج طفل ناجي متمسك بالحياة بكل قوته.
بصيص الأمل الوحيد في هذه المجزرة الواقعة علينا هو صوت المقاومة، ففي كل مرة تُطلق فيها الصواريخ تسمع التهليل من الصغار قبل الكبار، يؤجج نار الثأر في قلوبنا، يشفي غليلنا وقهرنا على قتل المدنيين، وننادي في دواخلنا "يا مدرك الثارات أدرك ثأرنا".
نحن لم نعتد على حياة هادئة، ففي كل شبر مجزرة، وفي كل بيت لوعة وفقدان، حتى التاريخ قهر ومذابح، لم يحدثنا الأباء عن وطن أخضر، لطالما تحدثوا عن بسالتهم وصمودهم في الثورات والانتفاضة، عن فتحة في الباب يراقبوا فيها المحتل ليباغتوه بالحجارة، عن المقليعة والسكين، عن المطاردات والملثمين، عن هروبهم من الغاز والمطاط، عن طائرات الأباتشي التي كانت ترشق بالحجارة، عن الانتفاضة والاشتباك المباشر والطوق، عن حديث الأجداد عن النكبة والتهجير، الكثير من القصص خالية من السلام والاسترخاء، نحن لا نعرف السلام حتى نحلم به، هذه حكاياتنا الموروثة، وهذه هويتنا.