المصور الذي أبكى العالم مرتين

2015-11-23 09:54:40

ديمة عوني /غزة

منذ صغره كان يهوى التصوير، ويطلب منه أفراد عائلته تصويرهم في المناسبات العائلية. لم يكن حينها يعرف أن اليوم الذي يحصد في جائزة أفضل مصور إخباري عالمي سيأتي تصديقا لنبوءة أستاذه عبد السلام شحادة، الذي علمه التصوير قبل أن يكون له نصيب في أن يشارك بعد سنوات في برنامج دبلوم يختص بالتصوير التلفزيوني والإضاءة. وكانت هذه أولى الخطوات لصعود سلم العمل الصحفي.

بداية الدرب

لم يقف زكريا أبو هربيد، 45 عاما، من بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة مكتوف الأيدي، حيث كانت البداية عام 1999 حين افتتحت وكالة رامتان للأنباء؛ ليكون أول متدرب فيها. وتنقل فيها  بين عدة وظائف ساهمت في توطيد العلاقة بينه وبين الكاميرا، إلى أن بدأ بالتغطية وتصوير الأفلام الوثائقية مع أستاذه شحادة، رغم أنه لم يكن من السهل عليه العمل مع شخصية عملاقة ومخضرمة في مجال العمل الصحفي، إلا أنه فعل وتميز عن أقرانه آنذاك.

مفترق وأشواك

اندلعت انتفاضة الأقصى بالتزامن مع تعيين أبوهربيد رسميا في رامتان، وتحول أنظار الإعلام العربي والغربي كله في تلك الفترة إلى قطاع غزة، مما تطلب منه تغطية الأحداث والأخبار على مدار الأربع والعشرين ساعة، تراوحت ما بين الوقوف على الحواجز وتصوير المسيرات الشعبية وتشييع جثامين الشهداء، مما جعل حياته معرضة للخطر في أي وقت، حيث تعرض في الخامس عشر من نيسان 2001 لإصابة أثناء تغطيته لحدث ما في خان يونس، تسببت له بإعاقة في يده اليمنى أجريت له على إثرها عدة عمليات جراحية، كان آخرها زراعة عصب في لندن.

حكاية التوأمين

حين كانت وتيرة الأحداث في غزة متقطعة، وأصبح الواقع شبه اعتيادي، لم يكن اعتياديا ما حدث في تاريخ التاسع من حزيران 2006، الذي صادف عدة أحداث قام بتغطيتها، قطعها اتصال نقل حياته إلى مجرى آخر؛ مفاده وجود جرحي على شاطئ السودانية؛ فكان من البديهي أن يجد جثة أو اثنتين في مكان الحدث، ولكنه صدم بأن الجثث كانت أكثر مما توقع وملامحها مشوهة، وأصبحت جميعا أشلاء. أخذ صوراعامة للمكان، قبل أن يتسلل إلى مسامعه صراخ طفلة تنادي "يابا يابا"؛ فتابعها بعدسته حتى وصلت تلة رمال، وألقت بنفسها إلى جانب والدها. تلك الطفلة كانت هدى غالية، ومنذ ذلك الحين أصبح اسم أبو هربيد وغالية كالتوأمين؛ يحضر أحدهما عند ذكر الآخر.

بدأت نفسه تصارعه؛ هل يستمر في تصويرها أم لا؟ هل يحق له أن يقتحم فاجعة هذه الطفلة؟ وجالت في نفسه تساؤلات وأفكار مشتتة حتى كاد يتوقف، لولا أن جاءه الأمر من هدى صارخة "صور، صور". كلماتها هذه أعطته دفعة معنوية لم يكن يتوقعها، وتصريحا لاقتحام أحزانها، فاسترد قوته، وواصل التصوير بمهنية عالية. وبدأت كاميراه تتجول في المكان، وهدى تحوم حول عائلتها: "صور، صور يا عالم ". في تلك اللحظات كان والدها يلفظ أنفاسه الأخيرة.

ماذا بعد؟

طوال تلك المدة التي تجاوزت ساعتين، لم يعرف زكريا من هي الفتاة التي نجت ولا اسم عائلتها، وحين وصل مكتبه ودخل غرفة المونتاج، ورأى لأول مرة ما قام بتصويره، وسمع صوت هدى يتردد في أذنه، ورائحة الدم تملأ أنفه، لم يحتمل ما رآه على شاشات المونتاج، فخرج من الغرفة محاولا أن يتمالك نفسه. لكن إنسانيته كانت أقوى، ووقع أرضا منهارا يبكي لهول ما عاشه، حتى جاء زملاؤه لتهدئته والتخفيف عنه. ولم يكن يعلم في تلك الأثناء أن قصة هذه الفتاة نشرت على كل وسائل الإعلام العربية والدولية بعدسته.

يقول أبوهربيد:"ألم كبير سببته هدى غالية لفترة طويلة حاولت أن أتناساها، ما زال صوتها يتردد في أذني، وصورتها وهي تجري احتلت مكانا كبيرا في ذاكرتي، كيف تخرج الحياة من رحم الموت؟ لقد كان الموت ورائحة الدم يملآن المكان، وهذه الطفلة خرجت من براثن الموت... هذا الأمر صعب جدا، ولا يستطيع أي إنسان تحمله، لقد كانت فترة سيئة جدا من حياتي".

نجاحات من رحم الموت

في تشرين الثاني من ذات العام، حصل أبوهربيد على جائزة أفضل مصور إخباري عالمي، وأفضل صورة إنسانية، وكان أول عربي يحصل على تلك الجائزة، وعبر فخره بذلك بقوله:"في نفس ذلك اليوم كانت مذبحة العتامنة، فشكرت القائمين لردهم الاعتبار لهدى وللصحفيين الفلسطينيين، وأخبرتهم أن الفرحة لا تكتمل؛ فأنا اليوم لم أغط مجزرة بلدتي بيت حانون، حيث أقاربي وأصدقائي هناك". فبكى الحضور والعالم بأسره مرتين: الأولى بتصوير هدى، والثانية بحديثه عن بلده.

أصبحت لقطة "شاطئ غزة"  تدرس في جامعات لندن، واعتلى زكريا منصات الجوائز، منها  جائزة الإبداع في مصر، وفي عام 2011 شارك في مهرجان الفيلم الوثائقي، وحصل على جائزة الإبداع في غزة.

طوال العدوانات الثلاث التي شهدها قطاع غزة في السنوات السبع الأخيرة، كان أبوهربيد يقوم بعمله دون كلل أو   ملل؛ ليكون قدوة ومثالا يحتذي به الجيل الذي سيأتي بعده حاملا كاميراته على الدوام لينقل للعالم بأسره ما يحدث في غزة؛ ليس فقط صور القتل والدمار، وإنما صور الحياة والأمل، وهذا ما ميزه عن غيره من الصحفيين في نقل الصورة الإنسانية.

 

اخترنا لكم
عماد ابو الفتوح عندما عرفت أن الرواية القا...
سلمى أمين هل تمنّيت يومًا أن تتحدّث أكثر م...
 هند الجندي ينظر معظم الناس للأذكياء...
لينا العطّار/  اخترنا لكم من اراجيك...
بقلم: تركي المالكي الحياة مليئة بالجمال وا...
اخترنا لكم هدى قضاض- اراجيك  يعد ا...
منوعات
نغم كراجه/غزة يواجه الشباب صعوبة في إيجاد...
رغد السقا/غزة يمر ذوي الإعاقة بظروف نفسية...
سها سكر/غزة "لا تحسَبِ المجدَ تمرًا أ...
نغم كراجة/غزة "أمي لم تفِ بوعدها، أخب...
إسراء صلاح/غزة هنا غزة المدينة المنكوب...
عرين سنقرط/القدس ربما قطار الفرح في مدينتي...