فداء مقبل
من باحة اللجوء أمام أحد مستشفيات غزة
مشهد لم يخطر على عقلي لو فكرت مليار مرة، ولن أراه حتى في كوابيس أحلامي لو نمت الحياة كاملة، ورغم أن أصابعي هي من خطت هذه الكلمات إلا أنني لا أزال أشعر أنني فاقدة للوعي وذهني شارد... ضائع... مشتت، فالنهار طويل جدا والليل أطول وأطول حتى يكاد أنه لا ينتهي.
ألاف الأطفال المرضى، وآخرون يلعبون أملا فيما تبقى من الحياة؛ فالمصير مجهول، أناس تفترش الأرض وتلتحف السماء تحت هدير الطائرات الحربية سيئة السمعة والمنظر، تقصف بعشوائية أهدافا مدنية وإنسانية، يا الله لقد أرهقنا التعب وأخذ الخوف حصته منا فنحن الكبار نحبس دموعنا والألم على من فقدناهم بلمح البصر، ويدور في أذهاننا ألف سيناريو وسيناريو، ننتظر في طوابير لقضاء حاجاتنا الإنسانية، ويصيبنا ما يصيبنا من الإحراج.
وبينما افترش الكرسي الخلفي من سيارتنا المركونة في باحة المستشفى أسمع صوت ملائكي... لا هو ليس صوت في الحقيقة إنما أنفاس طفلي الذي ترعبه أصوات القصف وأهات الأمهات وبكاء الرجال الذين فقدوا كل أفراد أسرهم... أما نحن النساء فالبكاء لا يفارقنا؛ أوليس نحن الأمهات والأخوات!! ولعله من الطبيعي أن تضم الأم فلذة كبدها إلى صدرها ليشعر بالأمن والحنان... في حالتنا لم يعد يكفي الضم إنما أصبح الحال أشبح بالتلاصق وكأننا جسد واحد... في الحقيقة هو شعور جميل لكن التوقيت سيء.
مهلا على مهلا يا صغيري؛ فهذه الحال لن تدوم، وقد علمتني اللجوء إليك بضعفي وقيلة حيلتي وهواني على الناس. يا لها من نظرات بريئة... كم هي مليئة بالتعبيرات، وقد قرأتها في عينيك الصغيرتين وأعرف أنك تطلب العودة للمنزل وسريرك، والغطاء الصيفي ناعم الملمس... أعرف أنك تريد أن تقول تعبت يا أمي... تعبت يا أمي، أما أنا فلن أقولها يا حبيبي.
حقيبة الروضة، الملابس الجميلة، فرشاة الأسنان، العطر الفواح، كرسي الأطفال خاصتك، ألعابك الصغيرة؛ كلها مليئة بالغبار وبقايا الحرب وزجاج النوافذ... كلها تحت ردم منزلنا الذي حولوه لأثر بعد عين... راحت كل أحلامنا... حتى التلفاز الذي كنت تشاهد فيه الرسوم المتحركة.
الآن عرفت الجواب يا بني... إنهم يريدون سلبنا الحياة وقتل أحلامنا وحقنا في العيش، لكن الشمس ستشرق وتملء الأرض ربيعا بعد شتاء فلن يدوم خريفنا، وستنقشع غيوم الحقد الأسود. وعهدا على الأيام سنبقى ما بقي الزيتون وبحر غزة.