نرمين حبوش
صحفية ناجية من العدوان على غزة
اندلعت الحرب على مدينتي غزة، وما إن اندلعت حتى تبددت الأحلام والآمال، حربا ضروسا تسفك الدماء، وتدمر بطريقة أكثر من أي حرب سبقتها؛ وهذا نتاج التطور الهائل الذي استحدث في الأسلحة التي تستخدمها إسرائيل تجاه قطاع غزة، والتي كان أشدها فتكا الفسفور المحرم دوليا الذي صب على رؤوس المدنيين كالمطر الغزير. هي تتشابه مع غيرها من الحروب، مريرة وعنيفة وحقودة وعنيدة، لكن شلال الدماء فيها أغزر... ويكاد أن يروي أرض قطاعنا ومسارح طفولتنا وعهد أجدادنا... وهنا يكمن التناقض.
قوضت الحرب كل المواثيق الدولية، واتفاقيات حقوق الإنسان، وحقوق الأطفال... كل الحقوق التي التزمت بمراعاتها الدول زمن الحرب والسلم، وتجاهلت القواعد الأخلاقية في التعامل مع الجرحى وخدماتهم الطبية. لم تميز بين عسكريين ومدنين عزل من الأطفال والنساء والشيوخ فكانت ضد كل عناصر الحياة، لم تكترث آلة الحرب لحقوق الملكية، وراحت تدمر كل ما صادفها بصورة عمياء وبشعة؛ كأنها تريد ألا تقوم للإنسانية قائمة بعدها.
مزقت الحرب كل الروابط الاجتماعية وراح الجار يبحث عن جاره تارة في مدارس الإيواء وأخرى في ثلاجات الموتى، ولنا أن نتخيل الشوارع التي نعرفها زمن الهدوء والمباني التي كانت تمثل لنا إشارات تدلنا على الطريق... راحت معالم المدينة، وتحولت إلى مكان مليء بالموت والخوف والدمار، ليلوح في الذهن ألف سؤال أبسطها: هل سيتم إعمار المدينة وستعود لها الحياة؟!
تتعالى صرخات الأطفال في الأحياء والزقاق، ونعلم أن عدسات الكاميرات تصور الضحايا والآهات كأحداث عاجلة، بين كل عاجل وعاجل عاجل، لكننا لم نرى إلا صمتا من العالم... هم فقط يشاهدون الجرائم دون أن يحركوا ساكنا؛ فتغولت الطائرات الحربية التي لو كانت في مكان غير غزة للحقها العار.
كنت شاهدة على الكذب والغش الذي تمارسه قيادة جيش الحرب، وكصحفية متخصصة أستطيع الحكم على أن كل روايات الاحتلال كاذبة، وهدفها الحصول على دعم العالم وولائه وطاعته، وقد شاهدناهم وهم يهزون رؤوسهم ويقولون نعم سيدي... نعم سيدي.
ضرب الاحتلال بأخلاقيات الحروب عرض الحائط فتحطمت وحولت أجساد الأطفال والنساء إلى أشلاء، ولم يخجل من امتلاكها القوة التي استهدفت فيها المستشفيات والأطفال والنساء وأماكن النزوح وأخلفت تصريحاتها؛ إذ لم يعد هناك أي مكان آمن في القطاع، وفي كل الحالات فإنها تجد مبررات سريعة لأفعالها يصدقها حلفائها وينشرونها كالنار في الهشيم على أنها حقائق دامغة، وإن افتقرت للدلائل فإنهم يساعدونها ويلفتون نظرها من مبدأ "مبررات الحليف للحليف واجب".
هل أقول سقطت الإنسانية بكل معانيها؟ أم سقط العالم من عيوني؟
هي "الحرب الكبيرة 2023"؛ مذبحة الطفولة والإنسانية، ومحرقة بعض الضمائر التي كان أولى بها أن تكون حية... هذا ما تراه عيوني وتسجله ذاكرتي وقلمي بكل مهنية.
خبر عاجل: العشرات بين شهيد وجريح من عائلة حبوش في قصف جديد على قطاع غزة.
لم ينته العدوان