نغم كراجة
ناجية حتى اللحظة من العدوان على غزة
لم يكن أكتوبر وردياً هذه المرة، بل كان عنيفا ودموياً؛ تسيطر عليه مشاهد الموت والفقدان والدمار، ومنه تنبعث رائحة الألم. وبات قطاع غزة مقبرة كبيرة لسكانه تحت أنقاضه؛ إذ لم تعد المقابر تستوعب هذا العدد من الشهداء بكل ما يحملونه من قصص إنسانية، وكذلك المستشفيات التي امتلأت أروقتها بالدماء والوداع والاستغفار، وعلت أصوات سيارات الإسعاف في كل ناحية ومكان، وكذلك أصوات استغاثة الناجين من تحت الركام.
منذ اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر الماضي حتى هذه اللحظة لم ينم جفن قطاع غزة، وكنت شاهدة عيان على مجازر الإبادة الجماعية، والنزوح القسري للمدارس والمستشفيات التي كانت جزءا من المشهد... معظمها تعرض للقصف.
اختفى الأهل والأصدقاء والمعارف والجيران لم يتبقَ منهم سوى أشلائهم المنثورة بين الركام، ولا أحد يستطيع التعرف عليهم ولا حتى تقبيلهم في لحظات الوداع الأخيرة التي يودع فيها شهيد شهيدا!
كل الملابس تتشابه في غزة... قماش أبيض ملطخا بالدماء وعبارات تقول: "عشنا معا وها نحن نموت معا"... نعم هي كذلك فمن لم يمت كان يتمنى الموت رفقة محبيه وأهله!
في مشهد دموي خال من الإنسانية يعدم الأطفال، وتسيل دموع الأمهات والآباء بغزارة وهم يحملون جثامين أبنائهم... الكل يقول "الحمد لله"؛ في إشارة للصبر والاحتساب... آخ يا يوسف يا صاحب الشعر "الكيرلي" آخ... من سيهوّن وحدة الليالي على أمك يا وهي تراهم جميعا صامتين.
أما فرح فشعرها أحمر وبياض وجهها ناصع، كنت أراقب اهتمام والدتها أبسط التفاصيل، وقد حرصت على ظهورها بأجمل، ولا أنسى زينة التي أكملت عامها الأول تاركتا خلفها ذكريات وصور عبر انستغرام... "فرحة أيامي وزينة حياتي"، استشهدن جميعا وكأن الأم أرادت دون قرار مسبق أن تبقى ترعى بناتها في الحياة وبعد الشهادة.
"ضلكم زورني في الحلم، ما تغيبوا عني كتير" عبارة قالتها إحدى الأمهات وقلبها يعتصر الما في وداع أبنائها الأربعة... لا شيء يشفي الغليل ويبل الريق حتى مياه الشرب أصبحت حلما بعيد المنال... يا الله، كبرنا عشرون عاماً في شهر، وأصبحنا خبراء حروب، نعرف القذائف والصواريخ البرية والبحرية والجوية التي تقتل الأطفال العطشى والجياع.
في غزة... محظوظون من يستطيع رجال الدفاع المدني من انتشالهم أحياء أو أموات من تحت الأنقاض... الموت لا يوجع الأحياء، لكن صوت الجرافات والمعاول وأظافر من يحاولون انتشال جسد ناعم لا يزال محجوزا توجع القلوب... هنا غزة!
طوابير يومية وساعات يومية لجلب المياه المالحة للشرب! وبعض أرغفة الخبز التي أصبحت "مغمسة بالدم" بعد أن القت الطائرات حقدها والحمم... خاننا الجوع وفعل العطش بنا فعلته... من يعتقد في العالم أننا نحب الموت عليه أن يصحى من سباته ويراجعه حساباته والضمير. وليعلم أن اهداف الحرب هي امرأة حامل في شهرها السادس، وأخرى مع رضيعها يسقط عليهم سقف برج سكني، وشاب ينعى خطيبته وقد لبست الكفن بدلا من فستان الزفاف... لكل شهيد حكاية... هم ليسوا أرقاما.
لم ينتهِ مسلسل الدم ولا تزال آلة الحرب ترتكب المجازر تحت انظار العالم الصامت.. ويقول الأحرار في العالم لكل الصامتين خبتم وخابت معايير الإنسانية الجديدة.
أكتب هذا المقال من تحت النار والقصف العنيف، وربما أكون الضحية القادمة... وإن حدث لي مكروه أرجوكم وثقوا كل قصصنا الإنسانية.